مهمة التعليم : أن يُغيِّر لا أن يندمج
محمد عابد الجابري
كثيرا ما يطرح شعار "إدماج التعليم في المجتمع"، تحت مظلة البحث عن مخرج لأزمة "بطالة الخرجين"، طرحا يرمي إلى الوصول إلى نتيجة عكسية، وهي التضييق من مفهوم "إدماج التعليم في المجتمع" إلى درجة الدعوة إلى تقييد عدد المتخرجين من المعاهد والكليات بعدد مناصب الشغل التي يوفرها القطاع الخاص. إن الذين يقولون بهذا يقيسون الأمور على الدول الصناعية المتقدمة حيث يشكل القطاع الخاص مجالا رحبا للعمل والإنتاج، أوسع في بعضها من المجال الذي توفره الدولة ومستقل عنها.
يجب أن نستحضر الفوارق بين الدول، ويجب أن نستحضر كذلك آفاق التطور. فالوضع الراهن في فرنسا وأوربا وأمريكا هو نتاج تطور داخلي قوامه نظام رأسمالي تغلب على مشاكله بواسطة الهيمنة الاستعمارية والإمبريالية. فلا مجال للمقارنة بين وضعنا ووضع من كانت له الهيمنة على مقدرات بلدان أخرى، فاستطاع أن يبني اقتصادا وتعليما مندمجين في بعضهما. وبالنسبة للأقطار العربية، وهي خالية من صناعة نامية ومتطورة، قادرة على توفير الشغل لأكبر عدد من الأيدي التي تطلب الشغل، فلا معنى للقول بأن "الحل" هو في إدماج التعليم في المجتمع. إن المطلوب هو تعميم التعليم في جسم المجتمع لتحريك عوامل التغيير والتجديد في كيانه.
هناك فعلا في جميع الأقطار العربية متخرجون عاطلون، منهم أطباء وأطر عليا في مختلف التخصصات. لكن عدم اندماج هؤلاء في "سوق الشغل"، ليس بسبب كثرتهم، بل بسبب أن هذه السوق قاصرة في القطاع الخاص من جهة، وأن الدولة عاجزة، من جهة أخرى، عن توفير الحد المطلوب دوليا من الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة الخ. المجتمع العربي يشكو من الخصاص في عدد الأطباء، وهو ما زال بعيدا عن النسبة المقررة دوليا، أعني عدد الأطباء الواجب لعدد السكان. وكذلك الشأن فيما يتعلق بالتعليم والتجهيز الفلاحي وغير ذلك. أما العاطلون المتخصصون في مجال العلوم الفيزيائية والكيماوية فهم ضحية غياب مؤسسات البحث العلمي، سواء على مستوى القطاع العام أو القطاع الخاص.
وإلى هذا وذاك يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن التعليم الثانوي لا ينمو، في معظم الأقطار العربية، بالوتيرة التي تناسب عدد الشبان. ولو أرادت هذه الدول أن ترتفع بتعليمها الابتدائي والإعدادي والثانوي والعالي إلى المستوى الذي يتناسب مع عدد السكان، لما كفتها الأطر (الكادر) المتوفرة في هذا المجال.وإذن فبطالة الخريجين ليست نتيجة لكثرة الطلاب بل هي نتيجة لعدم الوفاء بمتطلبات التنمية، التي نتحدث عنها الآن بوصفها جزءا من متطلبات الوفاء بحقوق الإنسان في هذا المجال. ومعلوم أن حقوق الإنسان ليست في حرية التعبير وسيادة القانون فقط، بل هي أيضا الحق في التعليم وفي الصحة وفي الشغل. وماذا يبقى من إنسانية الإنسان إذا حرم من المعرفة والعناية الصحية ومن العمل الذي يكسب به قوت يومه؟
خلاصة هذه الملاحظة يمكن التعبير عنها كما يلي: في بلدان كبلداننا يجب أن نتساءل ما المطلوب: هل إدماج التعليم في المجتمع أم تغيير المجتمع بالتعليم؟ هل مهمة التعليم أن يندمج أم أن عليه أن يغير؟
إن اندماج التعليم، مضمونا وشكلا واتجاها، في المجتمع العربي المنقسم إلى قطاع تقليدي وآخر عصري، قد أفرز –وكان لابد أن يفرز- صنفين من النخب: نخبة "عصرية"، أوربية أو أمريكية التكوين والميول والرؤية، غريبة عن المحيط العربي والتراث العربي؛ ونخبة "تقليدية" تراثية التكوين والميول والرؤية، غريبة عن العصر الذي تعيش فيه، مقطوعة الصلة تقريبا عن الفكر العالمي المعاصر ومكتسباته الإنسانية.
وهذا الانشطار على صعيد النخب راجع إلى انشطار مماثل على صعيد التعليم والثقافة بصفة عامة. إن التعليم السائد اليوم في الوطن العربي هو إما تعليم تقنوي (تكنولوجي، وضمنه العلوم "الحقة") يصنع عقولا قانونية دوغمائية، وإما تعليم ميثولوجي تلقيني يصنع عقولا راكدة أسطورية. والقاسم المشترك بين هذين النوعين هو غياب السؤال النقدي، سؤال: لماذا وكيف؟ إن العقل التقنوي، العقل الأداتي، عقل فارغ من الثقافة النظرية التي هي ميدان لتعدد الأسئلة والأجوبة، ولذلك نجده مستعدا لتلقي "العقائد" الجاهزة بمثل السهولة اللتين يتلقى بهما القوانين العلمية. فليس غريبا إذن أن تكون المعاهد والكليات العلمية من أهم الساحات التي يستقطب فيها التطرف الأنصار والأشياع. أما العقل "الأسطوري" الذي تصنعه المعاهد والكليات النظرية، وكذلك المدارس الابتدائية والثانوية، فهو عقل يتلقى المعرفة على صورة أساطير، روايات وتلقينات وحقائق جاهزة: فالتاريخ أساطير، والأدب وتاريخه حكايات وروايات، والجغرافيا مكان على الورق وأشباح في المخيلة، والتربية الوطنية مراسيم بروتوكولية وتعليمات إدارية، والتربية الدينية قشور فقهية ومشاهد من الآخرة، واللغة تُتَعَلَّمُ لتنسى: اللغة العربية تنسى في الكليات العلمية لأن التدريس فيها باللغات الأجنبية، واللغات الأجنبية تنسى في الكليات النظرية لأن لغة التعليم فيها هي العربية وحدها. والنتيجة هي أنه لا طالب العلوم والتقنية يمتلك لغة الانفتاح علي التراث والثقافة الوطنية، ولا زبون الكليات النظرية، كليات الآداب والحقوق والدراسات الإسلامية، يمتلك لغة الانفتاح على ثقافات العصر. وهكذا يبقى كل منهما مأسورا إما في عالم العقل التقنوي، الأداتي، وإما في عالم العقل الأسطوري. ومع غياب العقل النقدي يبقى الباب مفتوحا علي مصراعيه للأطروحات المتطرفة: فهي تستهوي الأول لكونها وثوقية أشبه بالقوانين العلمية، وتستهوي الثاني لأنها قابلة للتقمص وأشبه بالأساطير. وإذا توافرت الوضعية الاجتماعية الاقتصادية السياسية المنتجة للتطرف والمغذية له تحول الاستهواء إلى استقطاب، والإعجاب إلى انتماء.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن وضعية الانشطار الثقافي التي نتحدث عنها تنفتح الأبواب، أبواب الثقافة والتعليم، لجميع أنواع الاختراق. فإضافة إلى التيارات الدينية المتطرفة التي تقدم الحلول والوعود في شعارات وعبارات تجد صداها المطلوب في ضمير المحرومين والمهمشين، وهم يشكلون الأكثرية العددية في المجتمع، هناك الاختراق الثقافي الذي يتم على مستوى عالمي بواسطة الإرسال عبر الأقمار الصناعية وغيرها من وسائل الاتصال السمعية البصرية العصرية.
ومن هنا الظاهرة السائدة اليوم، وهي حلول "الاختراق الثقافي" محل الصراع الإيديولوجي. لم يعد العالم موضوعا لتنافس الإيديولوجيات التي يجتهد كل منها في تقديم تأويل للحاضر وتفسير للماضي وتشريع للمستقبل "الأفضل"، بل لقد غدا العالم كله اليوم مجالا للاختراق الثقافي الذي يستهدف الأداة التي يتم بها التأويل والتفسير والتشريع : يستهدف العقل والنفس ووسيلتهما في التعامل مع العالم: "الإدراك"، هذا اللفظ الذي أصبح اليوم كثير التداول بعد أن حل محل كلمة "الوعي" التي كانت سائدة عندما كان الصراع الإيديولوجي مهيمنا علي الساحة الثقافية والسياسية. كان الصراع الإيديولوجي يستهدف تشكيل الوعي، تزييفه أو تصحيحه… أما "الاختراق الثقافي" فهو يستهدف السيطرة علي الإدراك، اختطافه وتوجيهه وبالتالي تسطيح الوعي أي جعله يرتبط بما يجري على السطح من صور ومشاهد ذات طابع إعلامي إشهاري مستقطب للإدراك، مستفز للانفعال، حاجب للعقل، مكيف للذوق، موجه للخيال والسلوك.
وبعد، فهل نجانب الصواب إذا قلنا إن "البعد الاجتماعي والثقافي في العملية التعليمية"، في العالم العربي اليوم يحكمه نوعان من الاختراق :الإيديولوجيات الدينية المتطرفة التي تحيي فيه كل ميت ومميت مثل الطائفية والتمذهب الضيق والارتباط بالعشائرية، من جهة، والاختراق الخارجي الإعلامي العولمي الذي يسطح الوعي ويجمد روج النقد. وأمام هذه الوضعية هل يبقى من معنى لمقولة "إدماج التعليم في المجتمع" غير إعادة إنتاج ما هو موجود وبشكل أسوأ؟ إن معطيات تاريخنا وحاضرنا تفرض اليوم، أكثر من أي وقت مضى، ليس فقط "إصلاح"التعليم، بل إعادة بنائه ليصبح قادرا على تحريك الوعي بضرورة عقد اجتماعي جديد تتجاوز فيه مظاهر التخلف التي يعاني منها المجتمع العربي: مظاهر الفروق الطبقية المذهلة، والانشطارات الطائفية والعشائرية القاتلة، وهيمنة العقول الأداتية والرؤى الأسطورية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق