القيم السياسية وأخلاقية الشباب أو كيف ينظر الشباب إلى القيم السياسية
محمد الشيخ
القيم السياسية وأخلاقية الشباب
في ما يكاد يشبه النبوءة، كتب توفيق الحكيم نصا ـ ضمن كتابه: “ثورة الشباب” ـ عنونه: “قضية القرن الواحد والعشرين” ـ وما كانت عنده إلا قضية الشباب والتغيير ـ وقد أورد على لسان شاب أمريكي اتهم بالتخطيط لنسف تمثال الحرية بنيويورك، وذلك بعد أن كان القاضي قد اتهمه بأنه يرغب في تغيير المجتمع بالعنف: “نعم … مما ينافي الكرامة الإنسانية أن يبقى مثل هذا المجتمع ليراه القرن القادم …”، ولما سأله القاضي مجددا: “ولماذا الشباب هم القائمون بالثورة؟” أجابه الشاب: “لأنهم هم الذين سيشاهدون القرن الواحد والعشرين .. ويريدون أن ينقلوا إليه مجتمعا نظيفا.. هذه هي القضية لا نسمح نحن الشباب لهذا المجتمع الفاسد أن يتخطى أعتاب القرن الجديد، سنفعل كل شيء كي نمهد للقرن الجديد بأفكار جديدة ..” . أصاب الحكيم في النبوءة ـ ثورة الشباب في القرن الواحد والعشرين ـ وأخطأ التقدير ـ حدثت الثورة الشبابية وتحدث اليوم في قلب العالم العربي وليس بالولايات المتحدة الأمريكية.
والحق أنه لما كتب الحكيم ما كتب، ما كان ليصدق حديثه عن “ثورة الشباب” ـ التي حرص في ديباجتها أشد ما يكون الحرص على التمييز فيها بين “الثورة” (التي تعني عنده اقتلاع الفاسد مع حفظ النافع) وما دعاه “الهوجة” (التي تعني عنده الإتيان على الصالح والطالح معا) ـ أغلب المهتمين بالشأن السياسي والاجتماعي في العالم العربي، وذلك بحكم ما كانوا يلاحظونه من ابتعاد الشباب العربي ـ مأخوذ على وجه الجملة ـ عن الإهتمام بأمر السياسة. وما كان العرب بدعا من هذا، وإنما أجمعت البحوث الإجتماعية الغربية ـ التي تناولت بالدرس والتحليل قيم الشباب ـ على أن الإنشغال بالأمر السياسي يبقى آخر اهتمامات الشباب، وحتى صار المتشائمون منهم إلى الحديث عن “نهاية السياسة” وعن “موت السياسة”. أما اليوم، فقد اختلف الأمر، على الأقل في العالم العربي لحد الآن، حتى ليكاد يخيل للمرء أن “السياسة” و”الشأن السياسي” صارت من أولى أولويات شباب العديد من الدول العربية.
أما بعد، فإن موضوع بحثنا هذا دائر على “القيم السياسية وأخلاقية الشباب”. وإذا ما عَنَّ لنا أن نقسم ـ من الناحية المنهجية ـ موضوع هذا البحث ـ مسترشدين في ذلك بعنوانه ـ ألفيناه ينقسم إلى شقين كبيرين، وكل شق يأتلف ـ بدوره ـ من مفهومين مثنويين: شق متعلق بمعنى “أخلاقية الشباب”، وشق دائر على “القيم السياسية”. لكن كل شق يتضمن في نفسه “زوجا” من المفاهيم أقرن: مفهوم “الشباب” ومفهوم “الأخلاقية” في الشق الأول، و”القيم” و”السياسة” في الشق الثاني. لهذا صار المطلوب منا تحديد هذه المفاهيم ـ فرادى ومثنى ـ حتى لا تختلط هي بغيرها أو تلتبس به، ثم بعد ذلك، وبعده فحسب، يستقيم لنا آنها إيجاد الرابط بينها مثنى مثنى.
تأسيسا عليه، خذ بنا، بداية، إلى “الزوج” الأول من هذه المفاهيم المثنوية: “أخلاقية الشباب” حتى نستعلم عن أمره. فلا بد أن نتقدم، أولا، فنعرف من هم “الشباب”، ثم بعد ذلك لما كانت “الأخلاقية” تتعلق به هنا، كان لا بد من تأجيل القول فيها إلى حين استيفاء الكلام في أمر “الشباب”.
ـ I ـ في معنى “أخلاقية الشباب”
ـ 1 ـ ـ في معنى “الشباب” ـ
من المعلوم أن موضوع “الشباب” وأمر دراسته من المواضيع التي يختص بها البحث الاجتماعي والنفسي بالأولى والأحرى والأجدر. على أنه لئن كان البحث الإجتماعي والنفسي وليد عصرنا هذا، فإن الشباب قديم قدم الإنسان نفسه. ومن ثمة تقدم الموضوع ـ “الشباب” ـ على المبحث ـ الذي لو نحن ترجمناه لقلنا: “علم اجتماع الشباب”، ولو نحن عربناه لرسمنا: “سوسيولوجية الشباب”. والحال أنه وُجد الشباب مذ وجد الإنسان على وجه هذه الأرض، فهو قديم قدم تواجد المخلوق البشري في هذه الدنيا. لكن، حديثةٌ هي الدراسات عن “الشباب” بحداثة مذهلة . إذ لا يعود اهتمام البحث الاجتماعي بأمر “الشباب” إلى أبعد من خمسة أو ستة عقود من الزمن على أبعد تقدير. ثم إن مفهوم “الشباب” نفسه مفهوم “إشكالي” أو “مُشكَل”. ذلك أن: “هذه الفئة هي ـ إجتماعيا ـ فئة إشكالية [أو قل: مُشكَلَة]” ؛ وذلك بحكم أنه لا يستقيم الحديث عنها من دون أن تطرح على الباحث فيها والمنقب عنها إشكالات معرفية ـ إبستمولوجية ـ عويصة. ولهذا فإن أي حديث عنها إلا ويستدعي حديثا آخر عن سبل المعرفة بها: الحديث الاجتماعي ـ السوسيولوجي ـ عن “الشباب” يستدعي حديثا في أمر معرفة هذه الفئة وشروط المعرفة بها وحيثياتها؛ أي أنه يقتضي الخوض في حديث إبستمولوجي. ولهذا لربما كان الحديث في أمر “الشباب”: “حديثا غير مشروع من جهة الاعتبار الإبستمولوجية” ؛ أي حديثا غير مؤسَّس تأسيسا معرفيا. ولربما احتاج هو ـ على وجه الدوام ـ إلى التأسيس، بله إعادة التأسيس.
وفضلا عن هذا الأمر، فإن الحديث عن “الشباب” إنما هو ـ في الأغلب الأعم ـ حديث عن فئة “ذات مشاكل” ، حتى لإنك تجد من البحوث عن “الشباب” التي تحمل من العناوين: “الشباب والجنوح” أو “الشباب والمخدرات” أو “الشباب والعنف” أو “الشباب والتطرف” أو “الشباب والبطالة”، أكثر مما تجد من البحوث عن “الشباب والسعادة” أو عن “الشباب والأمل” أو عن “الشباب والطموح”، بل إن حتى البحوث التي تبدو من عنوانها أنها لا تحمل حكم قيمة في ذاتها، شأن “الشباب والثقافة” أو “الشباب ووسائل الإتصال الحديثة” … يخرج أصحابها ـ على الأغلب ـ بنتائج سلبية، مثل أن “الشباب صار لا يقرأ” أو أن “الشباب أمسى يستهلك الإعلام استهلاكا سلبيا”.
أكثر من هذا، لئن بدا “الشباب” قديما يكاد يسبق التاريخ نفسه، فإن مفهومه له تاريخ. وفضلا عن هذا وذاك، الباحثون الاجتماعيون في أمر “الشباب” على مذهبين: مُثْبِتَةٌ ونُفَاةٌ. فأما النفاة، فهم من نفوا أن يكون ثمة لمفهوم “الشباب” تشخص عياني، على التحقيق، فبالأحرى أن يتم البحث فيه. هذا عالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيير بورديو Pierre Bourdieu (1930-2002) طلع علينا منذ أزيد من ثلاثة عقود من الزمن خلت بمقال واستجواب ينفي فيهما أن يكون مفهوم “الشباب” يشكل “واقعا” متحققا، وأن يكون يدل على “فئة اجتماعية” متعينة، وإنما هو، عنده، “إِنْ هو إلا لفظ” لا حقيقة له ولا تعين ولا ما صدق: “وما الشباب إلا لفظ”. وقد أثار هذا التصريح لغطا كبيرا بين الباحثين الاجتماعيين، حتى إن البعض رد عليه بكتابة بحث كامل في أن: “ليس الشباب محض لفظ”، في ما يذكرنا بما كتبه عالم الاجتماع الفرنسي الشهير إميل دوركهايم Emile Durkheim (1858-1917) من أن “الوقائع الاجتماعية أشياء” (1895) أو ينبغي أن تُعامل ـ وهي بين يدي عالم الاجتماع ـ كما تعامل الأشياء في المختبر وهي بين يد عالم الأشياء، فما كان من الباحث الاجتماعي الفرنسي الآخر جيل مونرو Jules Monnerot (1909-1995) إلا أن رد عليه بكتاب سماه “الوقائع الإجتماعية ليست أشياء” (1946). إذ فهم العديد من الباحثين الاجتماعيين من عبارة بيير بورديو أن لا حق في أن يتبوأ الشباب ـ من حيث هم “فئة اجتماعية” ـ موضعا معينا، عَظُمَ أم ضَؤُلَ، في مباحث علم الاجتماع، لا ولا يمكن للفظ “الشباب” أن يصير “مفهوما اجتماعيا” بالمرة. والذي حمل بورديو على قول ما قال ـ مِن أن “الشباب” مفهوم لا حقيقة له ـ بواعث ودواعي: منها؛ ما لاحظه من “نسبية” ظلت تطبع على الدوام تحديد مدى عمر هذا “الشباب” بالحد الأدنى وبالحد الأقصى معا، إذ بحسب طبيعة المجتمعات التي يحيا بها هؤلاء الشباب، وبحسب تاريخها المخصوص ووتيرة صيرورتها، يتحدد مفهوم “الشباب” دلالة ومعيارا. ذلك أنه لا صلة بين أن يكون المرء “شابا” اليوم وأن يكون “شابا” في العصر الوسيط. حتى إن أصحاب الإراثة من نبلاء العصر الوسيط كانوا “يمددون” مرحلة “شباب النبلاء” التمديد لأسباب متعلقة بمشاكل الإرث المادية والاجتماعية والسياسية. فقد تحقق، أن “تقسيم الأعمار” ـ أي التمييز الفئوي بين أطوار عمر الإنسان ولا سيما منها “طور الشباب” ـ إنما هو مسألة سلطة وسلطان، وذلك لأنه لئن هو تؤمل مفهوم “العمر” مع بورديو بدا أن: “العمر معطى بيولوجي بالتعريف، لكنه يُستغَل استغلالا اجتماعيا ويُوجَّه ويُتَلاعَب به” . فكان الشباب بذلك “مبنى” إجتماعيا وثقافيا وليس “معطى” طبيعيا، وكان ثمة تفاوت بين “العمر الطبيعي” و”العمر الاجتماعي”. وفضلا عن هذا وذلك، فإنه لا تناسب بين “شباب” الباحثين الاجتماعيين في المجتمعات الغربية اليوم، و”شباب” الباحثين الأنتربولوجيين في المجتمعات غير الغربية. وبالجملة، يمكن أن نستملي من الباحث الاقتصادي والاجتماعي الإيطالي الكبير ولفريدو باريتو Wilfredo Pareto (1848-1923) عبارته الشهيرة: “لسنا نعلم بالذات متى يبدأ الحديث عن الثروة [الغنى]“، فنحاكيها ـ مع بيير بورديو ـ لنقول: “لسنا نعلم بالذات متى يبدأ الحديث عن الشباب”. وفي الجملة، كتب بورديو مستنكرا: “ثمة مؤسسات تهتم بالشباب، وثمة باحثون يتقاضون أجرا للحديث عن الشباب، وما الشباب إلا لفظ، فنحن نعلم أنه لا وجود للشباب، مثلما نعلم أنه لا وجود للرأي العام” .
ولبورديو في البحوث الاجتماعية الدائرة على موضوع “الشباب” بعض سند. فقد أثبت بعض منها أن مفهوم “الشباب” ـ شأنه في ذلك شأن مفهوم “المراهقة” ـ إنما هو “مفهوم اجتماعي” يتسم بالنسبية ـ وليس واقعا فيزيولوجيا يتسم بالإطلاقية ـ وهو مفهوم “طارئ” على المجتمعات الغربية، لأن مفهوم “المراهقين”، مثلا، نشأ لما صار يافعو المدن ـ تحت وطأة انعدام الشغل ـ بطالون يمارسون التبطل وأحيانا التجرم، فكان لهم بروز اجتماعي ملفت، ومن ثمة شكلوا “ظاهرة” للدراسة الاجتماعية، أما من قبل، فقد كان الحديث عن “المراهقة” أمرا إما غائبا أو خجولا.
والحال أنه يكاد هذا الجدل ينقلنا من “علم الاجتماع” إلى “فلسفة علم الاجتماع”، وتكاد هذه المناقشات تستعيد ـ في مجال آخر ـ الصراع الذي دار في العهد الوسيط بين من سُمُّوا بالإسميين ـ وفذلكة مذهبهم: ما المفاهيم الكلية إلا أسماء ما تقع تحتها حقائق متعينة وما صدقات متجسدة ـ ومن سموا باسم “الواقعيين” ـ وحصيلة فكرتهم: للمفاهيم الكلية تعينها في الواقع. وبعيدا عن فلسفة الأمر، فإن حجم الدراسات حول “الشباب” لربما ينهض دليلا على أن ثمة بالفعل ظاهرة اجتماعية ترتبط بأفراد في سن معين وتخصهم ـ الاندماج، طلب التشغيل، التمرد، الجنوح … ـ هم فئة “الشباب”.
ترى، هل توجد “فئة الشباب” بوصفها “واقعا إجتماعيا متعينا”؟ كان ذاك هو الأمر الذي شكك فيه بورديو صراحة، وقد جادله الكثير من الباحثين الاجتماعيين في هذه المسألة. وفي الإلماع إلى اسمين منهما ـ مشهود لهما بالبلاء في إقامة “علم اجتماع الشباب” بلاء حسنا ـ مَغْنَى عن الوقوف عند البقية ـ وما أكثرها! ـ ومَقْنَع. أجاب كل من الباحثين الفرنسيين أوليفييه غالون Olivier Galland وجيرار موجيه Gérard Mauger على هذا “المأزق المنهجي” و”المطب الإبستمولوجي” الذي وضع بورديو فيه الدراسات الشبابية بجوابين متباينين لكنهما متكاملان: يعتقد أوليفييه غالون أن “حقيقة الشباب” إنما هي أنهم “فئة اجتماعية” بنيت “بناء تاريخيا” ـ ولا عيب في هذا، فأغلب مواضيع العلم تُبْنَى ولا تُعْطَى ـ ويمكن تحليل تشكلها في التاريخ واستقصاء تحولات تمثلاتها إلى حدود القرن العشرين حيث أضحى الشباب “سيرورة للتنشئة الاجتماعية” : فقد أُدرِكَ الشباب، على التوالي، أيام النظام القديم بوصفه “نسلا”، وفي عصر الأنوار بوسمه مرتبطا بمسألة “التربية”ـ موضوع التربية ـ وأيام القرن التاسع عشر تُصُوِّر في إطار “الصلات بين الأجيال”، وفي القرن العشرين بوصفه نتيجة “تنشئة اجتماعية”؛ أي بوسمه طور تَخَبُّر عن الحياة الاجتماعية واندماج اجتماعي. بما يفيد ـ ضمنا ـ أنه لا ينبغي، كما يقول المثل الفرنسي الشائع: “أن نرمي بالوليد مع ماء الحمام”؛ أي أنه ليس ينبغي أن نتخلص من مفهوم “الشباب” لا لشيء إلا لأنه مفهوم “بنائي” أو لأن له ظروف نشأة خاصة. إنما “الشباب” سن انتقالي ـ من المراهقة إلى حياة الراشدين ـ يعني “الولوج إلى حياة البالغين [الكبار]“. ومن ثمة يعتبر “الشباب” مرحلة “عبور”، وهو عبور يتم من خلال توسل “محورين” أساسيين: المحور المدرسي-المهني، والمحور الأسري-الزواجي، عبور “عتبات” ـ أو “تخوم” ـ هي في عداد الأربع: نهاية الحياة الدراسية وبداية الحياة المهنية ومغادرة بيت الأسرة وإنشاء أسرة جديدة. فدخول حياة البلوغ ـ الكهولة ـ وبالتالي إنهاء حياة الشباب إنما يتم عبر اجتياز هذه التخوم الأربعة. والذي عند الباحث أن أهمية هذه التخوم تتمثل في: “إكساب معالجة مسألة العمر، وبالتبع مسألة الشباب، دعامة موضوعية مرتبطة بممارسات اجتماعية قابلة للتكميم” ، وذلك في ما يبدو على أنه رد ضمني على ادعاء بورديو استحالة وجود أساس موضوعي تكميمي لسن الشباب .
هذا، بينما يرى جيرار موجيه أننا صرنا اليوم أمام أعمال تتناول موضوع “الشباب” التناول الجدي بحيث تكفي ـ سواء من حيث الكم أو الكيف ـ لكي يتم الحديث عن “علم اجتماع خاص بهذا الموضوع” ـ يدعى “علم اجتماع الشباب”. ولهذا صار الباحثون الاجتماعيون اليوم لا يترددون في الحديث عن “علم اجتماع للشباب” بوصف موضوعه “يُبنى” وليس “يُعطى”، وبوصف مفهومه الأساسي الذي عليه مداره هو “البناءات المتتالية لموضوع “الشباب”" ، وقد أمسى يُتناول في صلة جدلية بمختلف ألوان معرفة “الواقع الاجتماعي”. وقد سَلَّم هؤلاء الباحثون، قبلا، بأن: “لكل طور تاريخي ضرب شبابه المخصوص، وذلك مثلما أن له شخصية شبابه النموذجية أو الإشكالية” . ذلك أن النظر في شأن تاريخية مفهوم “الشباب” أظهر أن: “تاريخ الشباب رهين بتاريخ مختلف طرق تصور الشباب” .
وبحسب جهة الاعتبار هذه، فقد رجحت كفة المُثْبِتَة ـ الذين يثبتون فئة “الشباب” ويتخذون منه “مفهوما إجتماعيا” عليه يديرون بحوثهم ـ على كفة النُّفاة الذي يرون أن مفهوم “الشباب” إِنْ هو إلا إسم سميناه لا حقيقة له.
والواقع أنها مُشْكَلَةٌ هي النظرة إلى الشباب ـ عبر تاريخ الثقافة البشرية ـ بأشد إشكال يكون. متقلبة هي بأكبر تقلب يكون. دائرة هي ما بين “الاستصغار” و”الاستعظام”. فمن جهة أولى، كان القدماء يذهبون إلى أن سن الكهولة هو سن “الحكمة” بلا مدافعة، وأن سن الشباب، بالتبع، إنما هو سن “الحمقة”، بامتياز واستحقاق: “منذ قديم العهود والمفكرون الأخلاقيون ورجال اللاهوت والفلاسفة والحكام ما توقفوا عن التشديد على “أوجه ضعف” المراهقين والشباب التي سموها انعدام الخبرة وانعدام المبالاة وانعدام النضج وانعدام الانضباط” . وقد ترتبت عن هذه الجهة في اعتبار الشباب غِرّاً غير مجرب ولا محنك نتائج؛ منها أنه: “منذ فجر البشرية و[الرجل] البالغ يسيطر، هذه حقيقة لا مراء فيها” . وما زال هذا التصور سائدا حتى افتتح المفكر والأديب الفرنسي بول نيزان Paul Nizan (1905-1940) ـ وهو الذي اغترض؛ أي مات شابا ولما يكمل بعد الخامسة والثلاثين من عمره ـ سيرته الرحلية الشهيرة “عدن العربية” (1931) بالعبارة التي صارت مأثورة: “لن أسمح لأحد بأن يقول إن سن العشرين هو أحلى سنين الحياة؟” وقد علق الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر Jean Paul Sartre (1905-1980)، في ما بعد، على هذا القول بالقول المؤيِّد: “إنما الشباب سن مغشوش وفيتيشي … ولقد عاشه نيزان حتى الثمالة …في البدء كان يبدو له الشباب سنا طبيعيا، شأنه في ذلك شأن الطفولة، رغم أنه أشقى شأنا [...] واليوم، ها هو ينقلب ضده ويحاكمه بلا هوادة. وإنه لسن اصطناعي صُنِعَ ويُصنَع [...] هو بامتياز سن الأمر غير الأصيل [...] وسن الغل والحقد … وليس يحمل سن الشباب حله في ذاته وخلاصه من أمره في نفسه، وإنما عليه أن ينهار وأن يتمزق”.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، كثيرة هي التصورات التي تجعل من سن الشباب ـ على الضد من كل ما تقدم ـ سنا شأنه أن يُغبَط عليه. فلسان حال الشيخ ما يفتأ يردد: ليت الشباب يعود … أكثر من هذا، خلقت المجتمعات الحديثة من “الشباب” و”التشبيب” ما يشبه “أسطورة” كاملة، وكم باعت هي إلى الناس حلم أن “يبقوا شبابا” وأن “يتشببوا” ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
فإذن، تقلب التاريخ في تحديد مفهوم “الشباب” تقلبا. واختلفت تقديرات الباحثين لهذا التقلب. هذا التقليد الروماني الذي عمرت نظرته إلى “الشباب” ردحا طويلا من الزمن ـ كان يكني عن سن الشباب بالعبارة Vir؛ بمعنى ذاك الذي يمتلك “فضائل” Virtus تميزه عن المرأة والطفل والشيخ الفاني. لكن هذه النظرة ما خلصت للشباب قط بل عاشت في ظلها وأعقبتها تارة نظرة أخرى إلى الشباب ترى في الشاب “من لا يملك بعد أمارات النضج”؛ أي من يتسم بسمتي “عدم الصبر” و”الطيش”. ومع عصر الأنوار سيتم الربط بين الشباب ومسألة التربية أو التثقيف على نحو ما ألمعنا إلى ذلك من قبل. وفي القرن التاسع عشر سيبدأ الحديث عن “الشباب” في إطار “الصلة بين الأجيال”. وفي القرن الذي يليه صير إلى الحديث بضرب من الحديث سيكولوجي ـ باعتبار الشباب “سيرورة نضج” ـ وسوسيولوجي ـ بحسبانه “سيرورة تنشئة اجتماعية”.
لكن، دعنا نتساءل، بداية، “ما الشباب”؟
لئن كان لا أحد يجادل اليوم في الاعتراف بأنه يوجد ضمن النوع البشري أفراد بالملايين يوسمون بميسم “الشباب”، وأنهم يشكلون اليوم جزءا ـ غير محدد المعالم بالدقة المطلوبة ـ من البشرية في تقدم، في بعض البلدان، وفي تقهقر، في أخرى، فإن الأمر الذي أثار استغراب الباحث الاجتماعي ميشيل فيز Michel Fize هو أنه حتى في المجتمعات الغربية، حيث الكل سواسية من حيث الحقوق، وحيث لا فضل لهذا على ذاك بالجنس أو العرق أو المعتقد ـ فإن ثمة “نسيان” للشباب. وهو نسيان يسائله فيز بالقول: لِمَ يا ترى هذا “النسيان”؟ حتى أنه يعتبر أن الشباب ما فتئوا يعدون ـ حتى في المجتمعات الغربية ـ “مواطنين من درجة دنيا” . ولهذا الداعي، كان يتم تحديد الشباب بكونهم “كائنات لم تكتمل بعد”، وذلك تلقاء “كائنات مكتملة” ؛ يعني “البالغين”، إلى حد أن الباحث الإجتماعي يتساءل: “هل سبق لنا أن رأينا من المثقفين من ينزل إلى الشارع للدفاع عن الشباب؟”، ويجيب: “كلا، لأن القضية تبدو في أعينهم ينقصها النبل المطلوب” .
والحال أنه عندما يتعلق الأمر بتحديد معنى “الشباب”، فإن: “الضبابية تظل هي القاعدة والدقة تبقى هي الاستثناء” . فعلى مستوى تحديد سن الشباب، مثلا، الحديث دائر على فرشاة زمنية أولى ـ ما بين 15 و25 سنة عند البعض ـ وفرشاة زمنية ثانية ـ ما بين 15 و30 سنة عند آخرين، بل حتى أن البعض يُعَدِّيها ليجعلها تصل إلى مشارف الثامنة والثلاثين بله الأربعين. والسبب في هذا الاختلاف لربما يعود إلى ما كان لاحظه بعض الباحثين الاجتماعيين من “تمديد” لسن الشباب طرأ في العقود الأخيرة سببه طول “بطالة الشباب” وتعطل تأسيسه للأسرة.
ومهما يكن من أمر، يتسم مفهوم “الشباب” عند الباحث الاجتماعي ليوبولد روزنماير Leopold Rosenmayr بأبعاد خمسة جوهرية: فهو طور حياة مستند إلى معيار عمر وممزوج بمعيار اجتماعي وفردي، وهو طور نضج جنسي، وهو موقع اجتماعي مشروط بالمشاركة في مختلف ثنايا المجتمع والطبقات الاجتماعية، وهو مجموع قيم، وأخيرا الشباب مصدر تجديدي للمجتمع. وبمعنى أجمل: الشباب عمر محدد ونضج جنسي وموقع اجتماعي ومجموع قيم ومصدر تغيير .
“لكن، لئن صارت للشباب جاذبيته، فإنه ما حظي بعين الاعتبار قط” . على أنه في المدد القليلة الماضية صار علماء الاجتماع وعلماء النفس يعيرون الاهتمام إليه، لكن لما صار الشباب يشكل بالنسبة إلى المسؤولين السياسيين مشكلة.
قال الباحث الاجتماعي الفرنسي المهتم بقضية الشباب المتبني لها ميشيل فيز: “لا يفكر جيل الشباب في ذاته بوسمه فئة اجتماعية [مستقلة] ـ وهذا عيبه” . لكن، لئن لم يكن يفكر الشباب في ذاته ـ إذا ما نحن سلمنا جدلا بقول هذا الباحث الاجتماعي المتخصص في قضايا الشباب ـ فقد صار يفكر فيه غيره ـ الباحثون الإجتماعيون. والحال أنه مع نشأة هذا المفهوم وتخلصه نشأ “علم اجتماع الشباب” الذي كان عليه، حسب روزنماير، أن يعنى بأمور ثلاثة: 1 ـ إجراء بحوث تاريخية وإثنوغرافية مقارنة مدارها على تحديد سن الشباب باعتباره فئة اجتماعية. 2 ـ إجراء بحوث عن “ثقافات الشباب الهامشية” تتضمن دراسة مشاكل الشباب التربوية وأنماط تشكل هويتهم. 3 ـ تحليل العلاقات بين الشباب، من جهة، وبينهم وبين “البالغين”، من جهة أخرى. والحق أن المحاولات الأولى لدراسة الشباب إنما تمت في إطار المبحث السوسيولوجي المسمى “مبحث أطور الحياة”، ولا سيما منه مبحثه الفرعي “مبحث الأجيال”، حيث سيعمد عالم الاجتماع الشهير كارل مانهايم Karl Mannheim (1893-1947) إلى دراسة حركات الشباب ضمن إطار مفهوم “الجيل”، وما كان للجيل من دلالة، عنده، إلا إذا هو تحققت فيه الشروط التالية: “إن الأفراد المتجايلين لا يشكلون وحدة وجيلا بالفعل إلا إن هم كانوا يشاركون في التيارات الاجتماعية والثقافية لمجتمعهم وقرنهم، وإلا بقدر ما تكون لهم التجربة النشيطة والمديدة في تفاعل القوى الخلاقة لوضع جديد” . وذلك بحيث يدرس الشباب هنا بوصفه “ظاهرة اجتماعية”، ويدرس الجيل بوسمه منطبعا بالإنتماء إلى جماعة وإلى ثقافة. ويصير الشباب هنا أحد الفئات القادرة على التجديد والتي يمكنها أن تسهم في التغيير. ومن ثم يصير الشباب جماعة مجندة وقابلة للتجنيد.
وتعتبر التجربة الأنجلوسكسونية في دراسة الشباب رائدة بهذا الصدد، ففي حين لم يتم تخصيص الشباب ـ حقيقة ـ بالإهتمام الاجتماعي بفرنسا إلا بدءا من الستينات، استقلت التقاليد البحثية الأنجلوسكسونية الأمبريقية بالبحث في هذا الموضوع على الأقل عقدين من الزمن قبل الفرنسيين. إذ تعود إحدى أقدم المحاولات بهذا الصدد إلى رائدي علم الإجتماع الباحثين الأنجلوسكسونيين: رالف لينتون Ralph Linton (1893- 1953) وتالكوت بارسنز Talcot Parsons (1902-1979) في إطار ما صار يعرف تحت مسمى “علم اجتماع دورة الحياة”. ثم تتالت البحوث بما صار يشكل تقليدا علميا قائم الذات لا يسع المجال هنا لاستعراض أهم أعلامه.
وفي ما يخص التجربة الفرنسية، فقد كتب الباحث الاجتماعي الفرنسي فرانسوا ديبي François Dubet مؤرخا للتجربة البحثية الفرنسية في الاهتمام بقضايا الشباب يقول: ” منذ منتصف سنوات الستينات، نشب بفرنسا نقاش غريب واجتاح بين الفينة والأخرى عويلم علماء الاجتماع: يتعلق الأمر بمعرفة ما إذا كانت [فئة] الشباب “توجد” بوصفها مجموعة اجتماعية منسجمة نسبيا، أم أن الشباب ما كان، إن دُقِّقَ أمره، سوى “لفظة”، حسب تعبير بورديو (1980)” . ثم كان تجاوز هذا “المطب المنهجي” فأنجزت بحوث بالعشرات في إطار سوسيولوجيا الشباب، أفاد منها هذا البحث كثيرا، ويمكن أن يكون القارئ تصورا عنها من خلال أسماء الأعلام التي يعرض إليها صاحب هذا البحث.
والحال أنه ثمة، على التدقيق، إشكالات كثيرة تثار حين الإقبال على البحث في أمر هذه “المرحلة العمرية” من “حياة الإنسان” التي تدعى “الشباب”. منها؛ أولا، المسألة الجوهرية المتعلقة بمدى نجاعة اتخاذ “السن” ـ أو “العمر” ـ وسيلة للتمييز بين الفئات الاجتماعية، وأخذ ذلك بعين النظر في تبين الأثر في الآليات التي تحكم الحياة بالمجتمع. أَوَ ليس يمكن اعتبار “الشباب” مجرد “مرحلة عابرة” تشكل دراستها “مشكلة زائفة”، وذلك على خلاف معيار التفرقة الذي هو “الإنتماء الطبقي” أو غيره والذي يأخذ بعين النظر رسوخ الواقع وثبوته؟ أليس يكون قد تم تقديم “الشباب” آنها وكأنه يشكل “ماهية” قائمة بذاتها، فصار التحليل الاجتماعي ـ الأمبريقي [الاختباري] بتعريفه ـ تحليل “مهايا” مجردة؟ وبعد هذا وذاك، أَوَ ليس موضوع “الشباب” موضوعا تتناهبه مباحث “علم اجتماع الشغل” و”علم اجتماع الفقر” و”علم الاجتماع السياسي” و”علم اجتماع الحركات الاجتماعية”، وبالتالي ليس له أن يشكل مبحثا قائم الذات، وإنما قصاراه أن يشكل مبحثا “تبعيا” ـ فرعيا ـ لا “أصليا” ـ رئيسيا؟ لهذا لا غرابة أن يكتب أحد الباحثين في علم اجتماع الشباب: “لا يمكن لعلم اجتماع الشباب أن يدعي المتح من أي تقليد أكاديمي” . ولهذا شكل هو دوما “مثار جدال” وتم تناوله، بالتبع، إلى مواضيع الأسرة والتربية والانحراف …
وبالفعل، عبر تاريخ علم الاجتماع وعلى مدار قرن من الزمن كان تناول موضوع “الشباب” على الدوام نهبا لمباحث في علم الاجتماع عدة: فإما علم اجتماع التربية (إميل دوركهايم (1858-1917)) أو علم اجتماع الأجيال (كارل مانهايم (1893-1947)) أو علم اجتماع الجنوح (أصحاب المدرسة الوظيفية)، أو علم اجتماع إعادة الإنتاج (بيير بورديو (1930-2002) وأصحاب علم اجتماع الحركات الاجتماعية (علم اجتماع الفعل)). وأثناء اندراجه ضمن هذه المباحث المتعددة المناهل كان الداعي إلى طرق موضوع “الشباب” متباينا: دمقرطة التعليم بفرنسا [الحالة الأولى]، تجنيد الشباب ضمن الجمعيات الألمانية [الحالة الثانية]، تنامي ظاهرة العنف المديني في الولايات المتحدة الأمريكية [الحالة الثالثة]، وأخيرا الحركات الطلابية الاحتجاجية التي نشأت خلال الستينات والتي وشت بما سماه عالم التنمية الفرنسي رونيه ديمون René Dumont (1904-2001) “مجتمع الشباب” [الحالة الأخيرة].
كل هذا جعل الخطاب الاجتماعي حول الشباب يتسم بسمة جوهرية هي طابعه الظرفي. إذ كلما استجد ظرف متعلق بالشباب هب علماء الاجتماع إلى العناية بأمرهم. ولهذا لا تتردد إحدى الباحثات المهتمة بأمر الشباب في أن تلاحظ: “إن الإنتاج السوسيولوجي الدائر على مسألة الشباب إنتاج غير منتظم” . وهو إما يتعلق بأزمة ـ شأن أزمات تشغيل الشباب ـ أو بتمرد ـ شأن تمردات الشباب التي اجتاحت العديد من المجتمعات الغربية. وكيف لنا أن ننسى المظاهرات الشبابية التي انطلقت في الستينات من جامعة بيركلي بالولايات المتحدة الأمريكية (1964) لتلهم وتلهب خمسين مظاهرة شباب في دول متفرقة ذوات بنى سياسية واقتصادية مختلفة: دول متقدمة صناعيا (الولايات المتحدة الأمريكية) أو دول متخلفة (السنغال ومصر ودول أمريكا اللاتينية)، ودول رأسمالية (فرنسا وألمانيا الغربية واليابان) أو اشتراكية (بولونيا ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا)، ودول ديمقراطية (فرنسا) أو ديكتاتورية (إسبانيا)، وذلك كله في سياقات قومية مختلفة: حرب فيتنام والصراعات العرقية بالولايات المتحدة الأمريكية، معركة ضد البيروقراطية في بولونيا ويوغوسلافيا، ورعب بوليسي واحتلال أجنبي في تشكوسلوفاكيا، ومقاومة حضور نووي باليابان، ودعوة إلى الليبرالية بإسبانيا، ونقد للدوغولية بفرنسا …
ومع هذا لم تؤد هذه الحركات الطلابية إلى ثورات دراماتيكية ـ حتى وإن زعزعت الكثير من الأنظمة لا سيما النظام الفرنسي ـ وذلك على عكس ما شهده العالم العربي مؤخرا من حركات شبابية احتجاجية. ومن ثمة لا تسوغ المقارنة بين الحدثين، بل يمكن اعتبار الحركات الاحتجاجية العربية هي “الحدث” بامتياز، بالمعنى الذي يعطيه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز Gilles Deleuze (1925-1995) لمفهوم “الحدث” من حيث هو ما يطرأ في غفلة من الزمن، وما يحدث وقد اغتنم رقدة من التاريخ. وما قاله جيل دولوز عن الحركة الاحتجاجية الطلابية التي شهدتها فرنسا في ماي 68 أقرب لأن ينطبق على ما صار يحدث الآن في العالم العربي:” إنه حدث ليس وراءه سببية قريبة بينة، إنه مفترق طرق وانحراف عن القوانين، إنه حالة غير ثابتة تفتح حقلا جديدا من الممكنات”. وهو يشكل بذلك: “حدثا خالص، مستقلا عن كل سببية عادية أو معيارية، تاريخه هو توالي أحوال من عدم الاستقرار، وتعاقب تقلبات واسعة. وإذا حق أنه حدثت هناك في ماي 68 الكثير من الاضطرابات والرجات والتخرقات والتوهمات، غير أن هذا لا يهم، ما يهم هو أنه كان ظاهرة استبصار، حدث الأمر كما لو أن مجتمعا لمح دفعة واحدة ما كان يحتويه من أشياء لا يمكن التسامح معها أو السكوت عنها، وبان له في الوقت ذاته إمكان تحقيق شيء آخر” .
وسمة أخرى ثانية هي الأخرى تسم هذا الخطاب تتمثل هذه المرة طابعه “التنبؤي”. إذ لا يكاد باحث اجتماعي يختم بحثا أجراه عن الشباب إلا بنبوءة عن مستقبل هذا الشباب. وما زال الباحثون الاجتماعيون يفعلون ذلك، يدرسون الشباب ويتنبؤون، حتى تحدث أحدهم عما سماه: “ديمومة النازع التنبؤي التي تنهض عليها كل الخطابات الاجتماعية (…) الدائرة على الشباب” . وهكذا، انطبع الخطاب السوسيولوجي الفرنسي الدائر على “الشباب” بواقع حياة الشباب الفرنسي بخاصة والغربي بعامة، بحيث منذ عام 1980 تم التركيز على علاقة الشباب بالتشغيل، وقبله كان يدور الكلام ـ منذ الأزمة البترولية العالمية (منتصف السبعينات) ـ على موضوع “الإندماج المهني”، وهو يدور اليوم على إدماج شباب ضواحي المدن الفرنسية الكبرى، لا سيما بعد أحداث العنف المديني ـ أو الحضري ـ التي صارت تشهدها هذه المدن بين الفينة والأخرى…
والواقع أن من شأن البحث في أمر “الشباب” أن يطرح العديد من الاستفسارات ـ ذات الطبيعة الإبستمولوجية ـ على من يجرونه. وكأني بهم يسائلون أنفسهم المساءلة: من نكون نحن يا ترى حتى نخول لأنفسنا أن نتحدث عن “الشباب”؟ وما المشروعية التي نملكها للحديث عنهم وبالبدل منهم؟ وعن أي شباب ينبغي أن نتحدث؟ وكيف ينبغي الحديث عنهم إن ساغ هو؟ وهل ينبغي أن نجدد القول فيهم على الدوام؟ الحال أنه لعل هذا هو ما دفع ميشيل فيز إلى حد المبالغة بالقول: “إن سوسيولوجيا الشباب، هي بالفعل ومهما ادعت أو قالت، في خدمة السلطة: إنها إيديولوجية توظف لصالح الطبقة المهيمنة” .
والحق أن هذه أسئلة انطرحت وتنطرح على الدوام على ذهن ليس فحسب الباحثين الإجتماعيين وإنما على كل من فكر في قضايا الشباب. أنظر إلى توفيق الحكيم يتخبط ـ في الصفحة الواحدة ـ في هذه المسألة “الإبستمولوجية” و”الإتيقية” الخاصة بالنظر في أمر الشباب ، فهو إذ يرفض أن نواجه الشباب بمنطق الموعظة: “الحذر كل الحذر أن نواجه الشباب في كل حين بالوعظ والإرشاد”، فإنه يرى أن: “من واجبنا أن نُبَصِّرَهُ: أنه إذا كان من حقه أن تكون له ثورة، فواجبه أن يعرف الفرق بين الثورة والهوجة … عليه أن يدرس ما يبقيه ويحافظ عليه ويضيف إليه، وما يلقيه وينبذه ويطرحه بعيدا عن طريق نموه وتطوره وزمنه الجديد”.
ـ 2 ـ في معنى “أخلاقية الشباب”
كان عالم البيولوجيا الفرنسي جاك مونو Jacques Monod (1910-1970) منذ ما ينيف عن أربعة عقود قد كتب: “لا يوجد مجتمع يقدر على أن يبقى بلا شرعة أخلاقية (توجهه) تكون مبنية على قيم مفهومة لأغلبية أعضائه، ومقبولة لهم ومحترمة من طرفهم” . تؤسس هذه الفكرة لدلالية الأخلاقية الحديثة من حيث أنها تجعل، من جهة، لكل مجتمع “أخلاقية” أو “إثيقا” Ethique ـ وليس “أخلاقا” Morale لأن الأخلاق تبقى فردية التمثل ـ بينما “الأخلاقية” جمعيته. ومن جهة أخرى، لأنها تربط “الأخلاقية” بالقيم. على أن هذه الأخلاقية العامة قد تتلون بلوينات مختلفة حسب أطوار العمر. فأخلاقية اليافعين غير أخلاقية البالغين مثلا. ويميز الفيلسوف الفرنسي بول ريكور ـ الذي لطالما هو اهتم بمسألة الأخلاق والقيم ـ بين “الأخلاقية” و”الأخلاق”. وفيصل التفرقة عنده أن شأن الأخلاق أن تنسحب على المعايير والإلزامات والموانع، وأن شأن “الأخلاقية” أن تفيد التطلع إلى حياة مكتملة مع الأغيار ومن أجلهم وفي مؤسسات عادلة. فالأخلاقية، بهذا المعنى، ثلاثية الأبعاد: تخص الذات والغير والمؤسسة. إنها اهتمام بالذات وعناية بالغير ورعاية للمؤسسة، وهي بذلك تعالق ما بين العنصر التفكري [الذات] والعنصر الغيري [السوى] والعنصر المؤسسي [المؤسسة].
وقد قيل في أمر “أخلاقية الشباب” القول الكثير والغزير، قيل وقيل حد التناقض في القول: قيل الشباب محافظ (بسبب أنهم لم يعودوا يعلنون عداءهم للأسرة، بل صاروا يعتبرونها القيمة الأولى في حياتهم، كلنا يتذكر شعار الشباب المتمرد في الستينات: “أكرهك أيتها الأسرة”)، وقيل إنه غير اجتماعي (بسبب افتقاد بعض الشباب إلى التربية المدنية والتربية على المواطنة، وإقبال آخرين على خويصة أنفسهم لا يأبهون لما يحيط بهم)، وقيل بل الشباب متحمس وسخي (إقبال بعض الشباب على العمل التطوعي الخيري والإنساني)، بل قيل الشباب أناني وعدواني (بسبب انغلاق بعضهم على عوالم Start up و stock options ) ولا كما تصور الأمر. حتى ذهب أحد الباحثين الاجتماعيين الفرنسيين في قضايا الشباب إلى أن الصور الاجتماعية المكرسة عن الشباب تعكس قيما، شأن قيمة “المثالية” و”المبادرة” و”الحرية”، وسلوكات، شأن “عدم القبول بالنظام القائم” و”الخمول” و”التجرم”، عادا ذلك كله يدخل في باب التمثلات عن “أخلاقية الشباب”.
ـ II ـ القيم السياسية
ـ 1 ـ في مفهوم “القيم”
أتى على الفكر الغربي حين من الدهر استقدم فيه الحديث عن أمر “القيم” واستعتقه، معتبرا كل حديث عن “القيم” من باب الفلسفة التي مضى زمنها وانتهى عهدها. لكن منذ ما يقرب من ربع قرن عاد الحديث عن “القيم” عودته القوية، لا سيما مع تنامي دعاوى “نهاية الإيديولوجيا” و”نهاية التاريخ” و”نهاية الأخلاق”، وما أعقب هذه الفلسفات التأبينية الجنائزية ـ التي تكاد تعلن موت كل شيء ـ من حديث عن “صراع الحضارات” بما هو صراع القيم. ههنا عاد الفكر الفلسفي الغربي المعاصر لكي يجدد النظر في فلسفة القيم، لا سيما عند فريدريش نيتشه Friedrich Nietzsche (1844-1900) وماكس شيلر Max Scheler (1874-1928). ذلك أن نيتشه اعتبر أن الإنسان، بالأولى، كائن قيم، بل هو “واهب القيم” للأشياء: يستقبح هذا ويستحسن ذاك، ويستنبل هذا ويستشنع ذاك، ويقدس هذا ويدنس ذاك … واعتبر أن مفهوم “القيمة” أساس كل فكر، بل أساس الوجود نفسه. ولئن كان الفيلسوف الفرنسي لوي لافيل Louis Lavelle (1883-1951) قد اعتبر أن كلمة “القيمة”: “صارت تحدث في أهل زماننا سحرا يضاهي سحر كلمة “وجود” التي لا تكاد عنها تنفصل”، فإن نيتشه اعتبر أن النظر في “القيم” أولى من النظر في “الوجود”، بل عد أن “الوجود” نفسه قيمة، مستتبعا بذلك كل مباحث الفكر الفلسفي ـ من معرفة ووجود وغيرها ـ إلى مبحث القيم. أما ماكس شيلر فقد بنى نظرية في القيم تقوم على ستة قضايا: أولا؛ القيم “مهايا” و”كنه”؛ بمعنى أنه بإمكاننا أن نتحدث عن “الأمر الطيب” و”الشأن العذب” و”الشيء النافع” ـ وهي كلها قيم تحدد نظر الإنسان وتوجه فعله ـ من دون ربطها بموضوع محدد ـ الدينار النافع مثلا، ثانيا؛ الوجدان هو ما يربطنا بالقيم الإيجابية طلبا ويبعدنا عن القيم السلبية نفورا ـ فنحن نميل إلى الخير ميلا وجدانيا وننفر من الشر نفورا وجدانيا أيضا. ثالثا؛ ثمة تراتب يقوم بين القيم، فنحن نعتبر، مثلا، أن الأمر العذب والملذ والمسعد قيم إيجابية، لكن لئن نحن فاضلنا بينها فضلنا السعادة مثلا على اللذة. رابعا؛ مثلما أن الوجدان هو ما يجذبنا نحو القيم، فكذلك هو ما يوجهنا في التفضيل بينها. فالإعجاب، مثلا، هو ما يدفعنا إلى اعتبار هذا الشخص أعلى قيمة من ذاك وأنبل شأوا. خامسا، العلاقة بين القيم علاقة موضوعية شأنها شأن القيم نفسها. أخيرا، وجود قيمة إيجابية هو بدوره قيمة إيجابية والعكس بالعكس.
“تقع القيم في قلب علم الاجتماع” ، بل إن علم الاجتماع نفسه وليد إحساس بتبدل القيم في الزمن الحديث. ذلك أن مسألة “القيم” كانت دوما في ركز اهتمامات علماء الاجتماع الكلاسيكيين شأن إميل دوركهايم وماكس فيبر Max Weber (1864-1920) وجورج زيمل Georg Simmel (1858-1918) وتالكوت بارسنز وغيرهم. وهم قصدوا بها تلك الغايات المثلى التي يستقصدها أعضاء المجتمع، فكرا وفعلا. فالقيم، بوفق هذا المعنى، تُنقل وتُتعلم وتُستبطن وتُتقاسم من طرف أفراد جماعة اجتماعية أو مجتمع بشري، وذلك بفضل التنشئة الاجتماعية . ولقد أحال علماء الاجتماع الكلاسيكيون دوما على مفهوم “القيم” في أعمالهم. وهكذا، فإن ألكسيس دو توكفيل Alexis de Tocqueville (1805-1859) وزيمل ودوركهايم وفيبر اشتركوا في الحديث عن “موضوعية” القيم وعن “تاريخيتها”. لكنهم افترقوا في اعتبار القيم. فذهب كل واحد منهم مذهبه الخاص. وهكذا ذهب ماكس فيبر، مثلا، إلى أهمية القيم لا في البنيات الاقتصادية والاجتماعية فحسب ـ وهو الأمر المعلوم ـ وإنما أيضا في التطور السياسي والاجتماعي، شأن المكانة الأولية التي أعطتها البروتستانتية للقيم الطهرانية في تشكل روح الرأسمالية. وذهب تالكوت بارسنز إلى النظر إلى القيم بوصفها: “المرجعيات المعيارية التي يستند إليها فكر كل فرد وفعله”، والذي عنده أن ثمة أربعة أنواع من القيم تتقاطع في ما بينها: القيم الاقتصادية والقيم السياسية والقيم الاجتماعية والقيم الثقافية.
ـ 2 ـ في القيم السياسية
على أن ما يهمنا من القيم هنا هو “القيم السياسية”. والحال أنه سبق للفيلسوف الألماني نيتشه أن ميز ضروبا من الإنسان بحسب اعتبار القيم التي يوليها الأولية: إما القيم الأخلاقية القائمة على تقابل “الخير” و”الشر” ـ فنكون إزاء “الإنسان الأخلاقي” ـ أو القيم الدينية الناهضة على مبدأي “المقدس” و”الدنيوي” ـ فنكون في ضيافة “الإنسان الديني” ـ أو القيم السياسية الدائرة على “العدل” و”الحرية” وغيرها ـ فنستحضر وجها من أوجه الإنسان هو “الإنسان السياسي”… الذي قد يؤمن بالعدالة قيمة أو بالمساواة أو بالديمقراطية …
وعلماء الإجتماع يكادون يجمعون على أن ليس يمكن ملاحظة القيم ـ بما فيها القيم السياسية ـ بضرب من الملاحظة مباشر. ففي مختلف البحوث التي يجرونها لا يسألون المستجوبين عن القيم التي يؤمنون بها، وإنما عن مواقفهم وعن المعايير التي يحتكمون إليها في إصدار هذه المواقف. وفي أغلب الأعمال السوسيولوجية الدائرة على “القيم” ـ ومن ضمنها القيم السياسية ـ اعتبرت القيم بوصفها أساس ومستند آراء الأفراد والجماعات وسلوكاتهم، وأنها هي التي توجه التمثلات الاجتماعية وتلهم السلوكات.
ـ III ـ أخلاقية الشباب والقيم السياسية أو كيف ينظر الشباب إلى القيم السياسية
عادة ما تصور عالم الشباب وكأنه، أولا، عالم عادم للقيم، وعادة ما تصور الشباب بكونه، ثانيا، شبابا مفتقدا إلى القيم، وعادة ما تصور الشباب، ثالثا، بأنه ذو قيم متناقضة.
دائرة هي أغلب البحوث عن الشباب، بالأولى والأجدر والأحق، على مواضيع “البطالة” و”الجنوح” شرقا وغربا. وعندنا لا تكاد هذه القاعدة تشهد على الاستثناء. كم قرأنا من العناوين: “جنوح الشباب”، “بطالة الشباب”، “انحراف الشباب” …
لكن، منذ ما ينيف عن ثلاثة عقود من الزمن وقيم الأوربيين عامة، وقيم الشباب خاصة، تحت المجهر، تستقصى، نهاية كل عقد مضى من الزمن، مثلما تستقصى أحوال معاشهم.
ذلك أنه عند نهاية السبعينات من القرن الماضي، بادرت جماعة من الباحثين الأوربيين في العلوم الاجتماعية إلى إجراء بحث موسع عن “أنظمة قيم الأوربيين”. وكان الهدف من إجراء هذا البحث ثلاثيا: التعرف على الأساس ـ أو القاعدة ـ الأوربي المشترك بتآلفاته وتخالفاته، والتعرف عن قرب على التغيرات التي طرأت على نظام القيم الأوربي، ووضع هذه المعطيات المحصل عليها بين يدي المسؤولين السياسيين والاجتماعيين بغاية استثمارها في سياساتهم. ولهذا الداعي تم إنشاء “فريق دراسة نظم القيم الأوربية” European value systems study group الذي صار يُستعلم عليه بمختصَر الإسم E(vs) ؛ أي European value survey. هذا وقد أجري البحث الأول عام 1981 وشمل تسعة دول أوربية: ألمانيا الغربية وبلجيكا والدانمارك وإسبانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وإيرلندة وإيطاليا وهولندة، وقاد البحث باحثون اجتماعيون بلجيكيون وهولنديون (جامعة لوفان وجامعة تيلبورغ)، وحرر التقرير الباحث الاجتماعي الفرنسي جون ستوتزل Jean Stoetzel تحت عنوان: “قيم الزمن الحاضر: استقصاء أوربي” (1983). أما الاستقصاء الثاني فقد تم بعد مضي حوالي العقد (1990) وقد جرى بإضافة دول جديدة: النمسا والبرتغال وسويسرا، ثم كان أن استلهمته دول أخرى، شأن كندا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان، فكان أن “تعولم” تحت مسمى World values Survey (WVS). وبعد مضي حوالي عقد آخر (1999) أجري الاستقصاء الثالث. وقد شمل هذه المرة ثلاثة وثلاثين دولة بما فيها دول أوربا الوسطى والشرقية. وبعد انصرام حوالي العقد (2088) صدر آخر تقرير وضم سبعة وأربعين دولة.
وقد اقتضت بروتوكولات الاستقصاء: أولا، أن تزيد العينات على الألف في من تفوق أعمارهم الثامنة عشر، وتقرر الحفاظ على الأسئلة نفسها حتى تستقيم المقارنة. وقد دارت الأسئلة على القيم التالية: الشغل وإدراك الذات والغير والأسرة والعلاقات البينية والدين والسياسة والمعايير الاجتماعية والتصورات الأخلاقية للفعل، أضيفت إليها لاحقا أسئلة حول التعلق بالديمقراطية وبالحريات الفردية، والمواقف من المهاجرين والقيم الفردية وقيم التضامن.
وقد تحدد مفهوم “القيم” في هذه البحوث على أساس أنها: أساس الآراء والسلوكات، وذلك بوصفها مرجعيات معيارية للفكر والسلوك. على أن القيم، إذ تهيكل تمثلاتنا وتوجه أفعالنا، فإنه ليس يمكن ملاحظتها ملاحظة مباشرة، وإنما شأنها أن تستقصى استقصاء غير مباشر على نحو ما أشرنا إليه سالفا.
والحال أن ما دلت عليه هذه الاستقصاءات، على وجه الجملة وفي ما تعلق بموضوعنا (الشباب والقيم السياسية)، أن السياسة تأتي في آخر اهتمامات الشباب الأوربي. وهم في ذلك لا يكادون يختلفون عن “الكبار”، لكن الشباب أكثر امتناعا عن التصويت من الكبار. وتذهب هذه البحوث إلى أن شباب اليوم أقل إقبالا على الاهتمام بالشأن السياسي ـ أقل “تسيسا” ـ من شباب الأمس، وأقل اطلاعا منهم على الأمور السياسية. وهذا الانصراف عن الشأن السياسي يوثر لا محالة في طبيعة السلوك الانتخابي. فالشباب لا يصوت ـ إن حدث له أن صوت، وقلما يفعل ذلك ـ إلا بتصويت ظرفي؛ أي بحسب رهانات هذه الانتخابات ومدى جنيه لنتائج نافعة له منها أو تهمه عن قرب.
تلقاء ضعف “التسيس” هذا، ثمة تنامي إسهام الشباب في الاحتجاجات السياسية: التوقيع على عرائض، المشاركة في مظاهرات مرخص بها …
والشباب الأوربي شديد الانتقاد على المؤسسات، لا سيما ذات الدلالة السياسية، والتي يعتبر أنها لا تسمح له بأن يجد مكانا له في المجتمع.
وفي ما يخص موقف الشباب من الديمقراطية، يظهر أن الشباب أميل ما يكون إلى هذا النوع من الحكم، ورغم أن هذه المساندة ليست أظهر مما يوجد عند الكبار. على أن هذا التعلق بالديمقراطية، إذ هو تعلق نسبي، لا يمنع الشباب من التعلق بأنماط أخرى من الحكم مباينة للنظام الديمقراطي، بل ومناقضة. فشاب من بين اثنين لا يرى مانعا في أن يحكمه نظام يلجأ بدل خدمات النواب إلى خدمات الخبراء (نظام تكنوقراطي)، وربع شباب ما بين 18-19 سنة يقبل بنظام حكم يحكم فيه رجل قوي لا يأبه للبرلمان والانتخابات.
فقد تبين أنه يمكن دراسة مسألة الشباب والقيم السياسية على ثلاثة مستويات: مستوى تسيس الشباب، ومستوى مشاركتهم في الشأن السياسي، ومستوى توجههم السياسي.
إن قياس تسيس الأفراد يكمن في قياس اهتمامهم بالبعد السياسي، وبمدى معرفتهم بالرهانات وبالنقاشات الجارية بالساحة السياسية، وبمدى تمكنهم من لغة السياسة ودلائل رموزها. وهكذا صير إلى مناقشة الشباب لمواضيع سياسية، ومتابعة الشؤون السياسية في وسائل الإعلام، ومدى توفرهم على آراء سياسية …
والمحصلة، في ما يتعلق بالتسيس، أن الشباب أضحوا أقل تسيسا من أسلافهم، مع تباين ما بين الذكور والإناث (الأقل تسيسا)، لا فرق في هذا الميل إلى اللاتسيس بين الحاصلين على أعلى الدبلومات وغيرهم. فالشباب أقل تسيسا من أسلافهم، ويتابعون الأحداث السياسية بمتابعة أقل، ومع ذلك فإن هذا لا يعني أن لا أفكار سياسية لهم، لكنها أفكار غير مصاغة صوغا بينا، لا ولا هي مؤسسة تأسيسا أو ثابتة ثباتا.
وفي ما يتعلق بأمر “المشاركة السياسية”، ثمة طرق شتى للمشاركة السياسية. أبسطها الذهاب إلى صناديق الاقتراع. وفي هذا المجال لوحظت في الدول الغربية ـ وهذه ملاحظة تنطبق على الكل شبابا وكهولا وشيوخا ـ نسبة عالية من الامتناع عن التصويت. وهو امتناع حقيقة القول فيه أنه ظرفي، على الأرجح، لا بنيوي؛ بمعنى أنه عادة ما يتعلق بالرهانات السياسية التي تكون مطروحة. والملاحظ بهذا الصدد، أن الشباب ما صاروا يعتبرون التصويت واجبا، بقدر ما صاروا يعدونه بحسب نفعيته، وبالتالي بحسب أهميته بالنسبة إليهم تكون عنايتهم بالشأن السياسي. لكن، لئن كانت المشاركة السياسية تجنح إلى التدني، فإن ألوانا أخرى من الفعل السياسي ـ لا سيما ما صار يسمى “المشاركة الاحتجاجية” تميل إلى التزايد. إذ تزايد، بالمقارنة مع سنوات الثمانينات، عدد الشباب ممن حدث له أن وقع عريضة أو شارك في مظاهرة مرخص لها. فبدءا من الحياة الدراسية بالثانويات الأوربية، يلاحظ أن ثمة اهتماما لدى الشباب كبير بالاحتجاج وبالتعبير الملموس عن عدم الرضا. على أن هذه الأشكال من تعلم الممارسة السياسية لا تترك أثرا لها على النقاشات السياسية للأفراد. غير أن هذا لم يمنع الشباب من أن يطالبوا بمساهمة أكبر للمواطنين في الحياة السياسية، ومن أن يعتبروا السياسة شأنا جديا لا ينبغي أن يترك للسياسيين وحدهم يفعلون به ما شاءوا كما شاءوا، ومن أن يطالبوا بإصلاحات جيدة مفضلين إياها على تغييرات جذرية لطالما حلم بها جيل الستينات من أقرانهم.
وفي أمر التوجه السياسي، فإن الملاحظ أنه حتى لئن كان أغلب الشباب غير مسيس، فإنه لا يرفض ـ برفض مطلق وإنما نسبي ـ أن ينضم ـ من حيث قناعاته السياسية ـ إلى اليمين أو إلى اليسار ـ وذلك بالرغم من أنحاء التداخل الحاصل اليوم بين الفريقين، حتى ليكاد حال كل منهما يقول: “تشابهت الأبقار علينا”. وذلك مع ميل طفيف نحو اليسار، ومع ميل أيضا إلى الانضواء السياسي ـ الانتماء إلى اليسار أو اليمين ـ بعامة. وعند شباب اليوم من الأوربيين أن الذي ينتمي إلى اليمين إنما يكون من الفئات المحضوضة ومن أعلى الطبقات الوسطى، بينما من ينتمي إلى اليسار يعتبر نفسه ينتمي إلى فئات شعبية.
وثمة صلات بين الهوية السياسية والاختيارات الأخلاقية (الإتيقية) لدى الشباب. ذلك أن الشباب اليميني أميل إلى أخلاق المبادئ من الشباب اليساري، بينما خلافهما حول قيمة الأسرة سائر إلى التبدد. فبينما كان شباب اليمين أعلق بقيم “الأسرة”، صار اليمن واليسار اليوم في هذا التعلق سواء بسواء. أما بالنسبة إلى استعمال المخدرات، فإن اليسار أسمح. وقس على ذلك الشذوذ. وفي أمر الميل إلى اعتبار “حفظ النظام الاجتماعي” قيمة، فإن اليسار سائر اليوم إلى مضاهاة اليمين. تلي هذه القيمة قيمة مشاركة المواطنين في القرارات الحكومية وضمان حرية التعبير. وهنا نلفي العكس إذ اليمين سائر إلى الالتحاق باليسار، بحيث سار اليمين إلى اكتشاف فضائل قيم اليسار. هذا مع ميل شباب اليمين إلى التأكيد على قيمة “الحرية”، وميل شباب اليسار إلى التشديد على قيمة “المساواة”. على أن كلاهما سائر إلى اكتشاف فضائل “الروح الوطنية”، مع تشديد عليها أكثر من طرف اليمين، وكره أشد لليسار اتجاه اليمين المتطرف.
وعادة ما قيل إن الشباب سن الاحتجاج وسن نقد المؤسسات وكل المواقف المحافظة، وبهذا يكون الشباب ـ بطبع متأصل فيه ـ أكثر احتجاجية، وأشد مثالية، وأقل ميلا إلى التوافقات. غير أن البحوث جعلت هذه الصورة تبدو أكثر إشكالية مما نحسب.
وهكذا، وعلى مدى أربعين سنة تحسنت نظرة الشباب إلى مؤسسة الشرطة والجيش والاستشفاء والتعليم ـ إلى حد ما ـ وذلك على عكس ما حدث بالنسبة إلى صور مؤسسة الكنيسة والبرلمان والإدارة في أذهان الشباب.
وصورة الديمقراطية في ذهن الشباب، على العموم، إيجابية. لكن نصف الشباب يعتبرون أن النظام الاقتصادي لا يشتغل اشتغالا جيدا في الديمقراطية، وأن الديمقراطيات تجد صعوبات في اتخاذ القرارات بسبب النقاشات التي تكاد لا تنتهي إلا لتبدأ والمماحكات التي لا طائل من ورائها اللهم إلا عرقلة اتخاذ القرار الحازم في الوقت الحاسم، وأن الديمقراطيات لا تعرف كيف تحافظ على النظام. وبالرغم من وقوف الشباب على بعض أنحاء ضعف الديمقراطية، فإنهم يساندونها. لكن المشكلة أن نصفهم يفضل نظام خبراء، وجزء مهم يثق بفكرة رجل قوي يحكم بلا عودة إلى البرلمان وإلى المنتخبين، اللهم إلا فكرة نظام عسكري فإن الكل يرفضها. على أن ما يستوقف النظر، هو أنه في بلد مثل فرنسا، حيث التقاليد الديمقراطية راسخة، فإن التعلق بالديمقراطية غير راسخ الرسوخ المنتظر . لهذا صدق من قال: إن الديمقراطية من أهش النظم السياسية، لكنها تحيا بالرغم من هذه الهشاشة، أو بالأحرى، بسبب من هذه الهشاشة.
ـ IV ـ القيم السياسية وأخلاقية الشباب أو كيف ينظر السياسيون إلى الشباب
يؤكد أغلب علماء الإجتماع على أن: “الشباب، من دون شك، رهان سياسي”. ويمثلون على ذلك بأمثلة من التاريخ عديدة أهمها ما حدث في فرنسا في القرن التاسع عشر من حيث أن الشباب صار محط استقطاب الأحزاب السياسية والجمهوريين والكاثوليكيين. ويخلص هؤلاء الباحثون إلى أن “استغواء الشباب ـ بغاية استقطابه ـ استراتجية قديمة (وقد ظلت دائما فعالة) تلجأ إليها السلطة” .
وبالفعل، ثمة تجارب بأوربا ـ لا سيما بفرنسا ـ شرع في إجرائها تخص الشباب اعتبرت “غير سياسية” بالمعنى المباشر للفظ “السياسة”: المجالس البلدية للشباب، برلمانات الشباب، المجالس الدائمة للشباب، المجالس الجهوية للشباب…وقد ألح المسؤولون على إنكار أية علاقة لهذه التنظيمات بالسياسة، وذلك مخافة أن يتهم أصحاب هذه المبادرات بالاستقطاب والاستدراج السياسي للشباب. لكن صير، مؤخرا، إلى الحديث عن ضرورة “تطوير وعي سياسي” لدى الشباب، أو عن “ممارسة سياسية جديدة لدى الشباب” . ولهذا أنشأت الدول الأوربية سياسات للشباب ومؤسسات تسهر على ذلك.
ـ V ـ معالم من التجربة العربية في قيم السياسة وأخلاق الشباب
نادرة هي كتابات الأقدمين التي خصصت للشباب، والتي جاء في عنوانها اسم “الشباب”، اللهم إلا القليل وأقل القليل، واللهم إلا إذا ما نحن استثنينا بعض العناوين النادرة أغلبها لا زال مخطوطا. ومنها مخطوطة بالخزانة الملكية بالرباط وبمكتبة المجمع الملكي للتاريخ بمدريد تحت عنوان “ريحانة الألباء وريعان الشباب” لصاحبها الفقيه والأديب الأندلسي ابن المواعيني (ت ـ 564 ه/1168 م). وهي تدخل في باب تقليد كتب التعليم الخاصة باليافعين وبالنشء.
غير أن العديد من النصوص التراثية تتضمن في تضاعيفها إشارات ونوادر وحكايات عن الشباب. ومنها ما كنا بصدده عن المشاركة السياسية: فقد أوردت كتب التراث أنه قدم وفد على الخليفة عمر بن عبد العزيز، وكان فيهم شاب، فأخذ يخطب، فقال عمر: “الكبر ، الكبر”، فقال الشاب: “يا أمير المؤمنين لو كان الأمر بالسن، لكان في المسلمين من هو أسن منك”، فقال: “تكلم”، فقال: ” لنا وفد الرغبة، ولا وفد الرهبة، أما الرغبة فقد أوصلها إلينا فضلك، وأما الرهبة فقد أمننا عليها عدلك”، قال: “فمن أتم”؟ فقال: “وفد الشكر، جئنا نشكرك وننصرف”. وقد صدق الشاب القول. هذا أسامة بن زيد أمّره النبي الكريم على الجيش وكان عمره ثماني عشرة سنة، وهذا عتّاب بن أسيد استعمله على مكة لما سار إلى حنين وعمره نيف وعشرون سنة. وحكى المسعودي في ” شرح المقامات” أن المهدي لما دخل البصرة رأى إياس بن معاوية وهو صبي، وخلفه أربعمائة من العلماء وأصحاب الطيالسة، وإياس يقدمهم، فقال المهدي: “أما كان فيهم شيخ يتقدمهم غير هذا الحدث؟ ثم إن المهدي التفت إليه، وقال: كم سنك يا فتى؟ فقال: سني ـ أطال الله بقاء الأمير ـ سن أسامة بن زيد بن حارثة لما ولاه رسول الله جيشا فيهم أبو بكر وعمر. فقال له: “تقدم بارك الله فيك”. وذكر الخطيب في “تاريخ بغداد”: أن يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسنُّه عشرون سنة أو نحوها، فاستصغروه، فقالوا: كم سن القاضي؟ فقال: “أنا أكبر من عتّاب بن أسيد الذي وجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضيا على أهل مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضيا على أهل اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سويد الذي وجه به عمر بن الخطاب قاضيا على البصرة، فجعل جوابه احتجاجا له. وولي عبد الله بن زياد خراسان وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وليها لمعاوية ـ وولي معاذ اليمن وهو بن أقل من ثلاثين سنة. وحمل أبو مسلم أمر الدولة والدعوة وهو بن إحدى وعشرين سنة.
على أنه منذ الربع الأخير من القرن الماضي بدأت تتوفر مكتبة عربية ـ لا شك غير كافية، لكن لا يمكن إنكارها ـ حول قضايا الشباب. إلا أن هذه الأدبيات لا زالت تعاني من مشكلتين اثنتين:
أولهما؛ أن الدراسات العربية في مجال الشباب ـ لا سيما في شقها الاجتماعي ـ تعاني، كما تعاني بعض القطاعات الفكرية الأخرى، مما يمكن أن نسميه “عقدة الانطلاق من الصفر”، بحيث أن هذه الدراسات، وكما لاحظ ذلك بحق عزت حجازي منذ أزيد من ربع قرن، “جاءت كلها “جزرا” منعزلة لا تربط بينها أرض واحدة: لا يمهد السابق منها للاحق، ولا ينطلق فيها من النقطة التي انتهى عندها القديم ـ فضاعت فرص “الاستمرارية” و”التراكم” اللازمين لنمو العلم وتطوره، وخلق أرضية صلبة يمكن أن يقوم عليها التطبيق” . ولا غرابة أن ينطبع علم اجتماع الشباب ـ في العالم العربي ــ بهذه السمة، بل إن الفكر العربي ـ مأخوذ في مجمله ـ يعاني من هذه المشكلة البنيوية. ألم يكتب حسن حنفي منذ ما يزيد عن ربع قرن في توصيف هذه الحال قائلا: “يبدأ كل جيل وينتهي ثم يبدأ الجيل الثاني كما بدا الأول من الصفر”، فلا يحصل آنها تراكم يدعو إلى استثمار؟
ثانيهما؛ إذ ما نحن كنا قد سقنا التجربة الأوربية بغاية الاستئناس بها، فإننا قد نذهل إذ نكتشف أننا سبقنا هذه التجربة، بمعنى ما من المعاني، لكن جهودنا ما استمرت ولا هي أثمرت. ذلك أنه في عام 1953 تكونت في القاهرة “جماعة البحوث الحضارية المقارنة” بقصد القيام بدراسة مقارنة عن اتجاهات الشباب في كل من مصر ولبنان والعراق وسورية والأردن والولايات المتحدة الأمريكية. وقد تضمنت جملة من الباحثين الاجتماعيين والنفسانيين: 13 من مصر، 9 من لبنان، 3 من العراق، 3 من سورية، 14 من الولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن هيئة استشارية مكونة من خبراء والاستعانة بمساعدين. وقد استغرق جمع البيانات الرئيسية للبحث مدة ست سنوات (من عام 1955-1962) إلى حين صدور الدراسة بالقاهرة (1962) تحت إشراف الدكتور محمد عثمان نجاتي. وقد طرحت الدراسة في ديباجتها المسألة التي لا زالت تطرح حتى اليوم ـ بعد مضي ما يقرب من خمسة عقود من الزمن، وهي مسألة ما إذا كان ينبغي دراسة الحالات في العالم العربي في إطار وحدة أم في إطار حالة حالة . ولا زالت هذه المسألة مطروحة إلى اليوم.
وإذا كان المفكر الغربي في قضايا الشباب قد انتهى إلى ملاحظة أن الأنظمة الغربية عادة ما استدرجت الشباب، فإن الأمر لا يكاد يختلف عن ذلك في العالم العربي. فقد لاحظ الباحث الاجتماعي والنفسي المصري عزت حجازي منذ ما ينيف عن ثلاثين سنة الملاحظة التالية: “إن دراسة للتاريخ المعاصر للعالم العربي تشير ـ مع الأسف والأسى العميقين ـ إلى أن “النظم الوطنية” في فترة ما بعد الاستقلال السياسي تتجه إلى كف مبادأة الشباب وتهدئة ثوريتهم واحتواء نشاطهم” . وقد حاول تعليل هذا الموقف الإقصائي بالقول: “يرجع هذا الموقف من الكبار إلى أن قطاعا كبيرا من الشباب ـ نتيجة لنقائهم ورومانسيتهم وعدم ارتباطهم بالتزامات نحو زوجة وأولاد، وعدم تقيد ولائهم بمؤسسات قائمة، وغير ذلك ـ يتقدمون الكبار في الإحساس بالقصور الاجتماعي وفضحه والدعوة للتغيير والعمل من أجله فعلا”. والأمر نفسه لوحظ بعد مرور أزيد من عشرين سنة على توصيف حجازي للحال. إذ لوحظ أنه راوحت اتجاهات الأقطار العربية في الاهتمام بالشباب ما بين التهميش والإقصاء والتغييب تارة، والسعي للإحتواء والاستقطاب، تارة أخرى، وذلك كله مخافة من الاستبعاد الكامل لهم .
ومثلما كانت قد وردت السياسة ضمن آخر سلم أولويات الشباب الأوربي القيمية، فإن الأمر لا يكاد يختلف عند الشباب العربي في شيء. إذ أثبتت بعض البحوث العربية بهذا الصدد ندرة ـ بل قلة ـ اهتمام الشباب العربي بالسياسة، بحيث جاءت بعض نتائج البحوث الميدانية التي أجريت على أولويات الشباب العربي على النحو التالي: فرص العمل 45 في المائة، التعليم 23 في المائة، البيئة 12 في المائة، توزيع الثروة 8 في المائة، المشاركة السياسية 5 في المائة، الرعاية الصحية 4 في المائة، الفقر 4 في المائة. ويعلل الدكتور إبراهيم بدران عدم انصراف الشباب إلى العناية بالسياسة بما يلي: “اجتاحت البلاد العربية عموما (…) موجة طويلة استمرت أكثر من 40 سنة، كان العمل السياسي فيها من خلال الأحزاب والمؤسسات السياسية غير الموالية للحكومة، غير مقبول للسلطة، وقد يكون محل تساؤل وعقاب” . ولهذا أنت واجد أن الشباب العربي: “ينظر إلى العمل السياسي بشيء من الريبة، أو عدم الاهتمام، أو عدم الثقة”. كيف لا يكون الأمر كذلك، وقد أظهرت بعض الدراسات أن جمهور الشباب العربي عن السياسة بمبعد ومنآى، وذلك سواء بالمشاركة أو بإبداء الآراء والأفكار، وذلك بنسب مرتفعة نسبيا. إذ أن 65 بالمائة من الشباب العربي يشعر بأنه غير قادر على إبداء آرائه في ما يتعلق بأحداث السياسة الراهنة، و60 في المائة منهم لا يتمكنون من التعبير عن أفكارهم. بل يذهب بدران، بناء على هذا، إلى حد الحديث عن “الاغتراب السياسي لدى الشباب”، وذلك “لا سيما فيما يتعلق بارتباطهم بالقيم السياسية السائدة، أو بعدم وجود وقت لمشاركتهم السياسية بشكل عام، أو القدرة على التأثير في الأحداث السياسية والتعبير عن الرأي بشكل خاص. وتلتقي اتجاهات الشباب حول رغبتهم بأن يكون لهم دور فاعل في الحياة السياسية بأوجهها كلها، إلا أن فرص المشاركة غير متاحة لهم” .
وتعلل الباحثة ناهد عز الدين هذه الظاهرة بالقول: “أما شيوع حالة العزوف السياسي الجماعي في أغلب بلدان الوطن العربي، ولا سيما في قطاع الشباب، فيعود إلى التخويف من جانب، واليأس والإحباط من جانب آخر، ما يزيد من الشعور بالغربة واتساع الفجوة، وتفضيل الهجرة إلى الخارج أو الهروب في الداخل، فيأخذ بدوره أشكالا عدة سواء في اتجاه اللامبالاة أو الإنغلاق على المصالح الفردية، أو من خلال اللجوء إلى الرؤى المثالية، أو تبني الاتجاهات الدينية المتطرفة، أو الاستغراق في المتع والملذات الترفيهية السطحية ما دامت بمنأى عن السياسة ومخاطرها” . ولئن كان الباحث السابق قد تحدث عن “الإغتراب”، فإن هذه الباحثة تفضل الحديث عن “السلوك الانسحابي إزاء مختلف مفردات الحياة السياسية من حرية وديمقراطية ومشاركة” .
لكن الشباب العربي سائر اليوم ـ في العديد من البلدان العربية ـ إلى كسر حاجز الخوف هذا من أمر الحديث في السياسة، ولربما هو سائر أيضا إلى كسر حاجز الخوف من الانخراط في العمل السياسي.
وفي ما يتعلق بقيمة الديمقراطية، مر بنا أن الشباب الأوربي بعامة والفرنسي بخاصة يساند الديمقراطية لكنه لا يذهب بكله إلى حد الاستماتة في الدفاع عنها، ولعل الأمر قد لا يختلف عن نظرة الشباب العربي إلى هذه القيمة السياسية. إذ تظهر بعض البحوث الميدانية عن الشباب المتخرجين من الجامعات أن لهؤلاء إيمانا بالديمقراطية، ولكنهم يميلون إلى ربطها بمفهوم العدالة الاجتماعية وبتكافؤ الفرص أكثر مما يميلون إلى ربطها بالحرية الفردية ؛ بمعنى آخر أن إيمانهم بالديمقراطية أقرب إلى النموذج الديمقراطي الاجتماعي منه إلى النموذج الليبرالي الخالص.
فقد تحصل، أن الشباب العربي يعاني من الكثير من المشاكل. وأن مفتاح هذه المشاكل كلها المسألة السياسية. فما لم تتوفر إرادة سياسية في إخراج الشباب من عزلته السياسية التي لم يخترها، فإنه قد لا يسمع له صوت في السياسة حكيم يعبر عن تشبعه الأساسي بالقيم السياسية الكونية ضمن المتاح للبشرية جمعاء بصرف النظر عن أجناسها وأديانها وألوانها (العدالة، الحرية، الإنصاف، المشاركة في التدبير…). ولا خفاء أن حراك الشباب في العالم العربي، الحراك الذي بدأ مؤخرا، قد أرسل رسالة واضحة إلى كل المعنيين بواقع الشباب ومآله؛ أولاهما تقول: إن الحرية بالأولى، والعدالة الاجتماعية بالثاني، هما القيمتان السياسيتان لشباب العرب اليوم، لربما أكثر من تحصيل لقمة العيش. وثانيهما تقول: لا خوف على شباب اليوم من التطرف، بما أن قيمة “الحرية” صارت لها الأولوية. وقد فهم الشباب العربي ـ وتلك أخلاقية شباب بديعة ـ أن لا حرية من غير تسامح.
محمد الشيخ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق