الثقافة والعمل الجمعوي
(جهة الشراردة بني حسن نموذج)
لقد عرفت جهة
الشراردة بني حسن في السنوات الأخيرة تأسيس جملة من الجمعيات الثقافية، في العديد
من الأحياء الشعبية، لاسيما بمدينة القنيطرة وكذلك في المدن الصغرى وبعض القرى
النائية. وقد تكاثر تأسيس الجمعيات لدرجة اعتبر البعض أن العمل الجمعوي لم يعد
ظاهرة فقط وإنما أضحى ظاهرة اجتماعية. فلم يعد العمل الجمعوي هاجس النخبة
والمثقفين أو من فعل الجمعيات الإقليمية والجهوية الكبرى عبر خلق فروعها في مختلف
أنحاء البلاد، بل إنه أصبح يعبر عن حاجة لدى عدد متعاظم من المتعلمين وغير
المتعلمين وعموم الفاعلين في الجسم المجتمعي مباشرة.
لقد أصبح العمل
الجمعوي بالجهة، أكثر من أي وقت مضى، يرتبط بهموم وتطلعات قطاعات اجتماعية واسعة،
وأغلبها كانت، بالأمس القريب، قطاعات مهمشة عموماً، بل بعضها كان مقصياً كلياً، عن
الحقل الفكري والثقافي المقتصرً على "المثقفين الكبار"، أو من كانوا
ينعتون كذلك، عندما كانت الثقافة في برجها العاجي بعيدة عن المواطن العادي.
ولعل هذا المد
سائر حالياً صوب جعل الجمعيات والعمل الجمعوي أحد عوامل إعادة إنتاج وتوزيع
المنتوج الثقافي والإبداعي على أوسع الأصعدة.
وتكمن أهمية هذا
المد في كونه يسعى إلى ربط الدوائر المهمشة بالأمس (الأحياء الشعبية، المراكز
الصغيرة، القرى النائية) بمسار الإنتاج الفكري والثقافي الذي تعرفه البلاد. وهذا
من شأنه، لا محالة، المساهمة في بلورة وعي مشترك بالقضايا المثارة في هذا الحقل.
ولا أدل على ذلك ما نلاحظه من اهتمام فكري وتحليلي بالتعبيرات الثقافية المحلية.
وهذه صيرورة مآلها الحتمي هو الربط بين الخاص والعام، وبين الثقافي والحضاري، وبين
الفكري والاجتماعي، وفي نهاية المطاف الربط بين الواقع المعيش والقضايا المصيرية.
فإذا كان العمل
الجمعوي سابقاً يعيش نزعة تجزيئية بين المجالات (السينما، المسرح، الكتابة...)،
جعلته يحيى في دوائر مغلقة، فإنه اليوم يتجه نحو مناطق الربط والتواصل بين مختلف
المجالات. وهذه، في حد ذاتها، خطورة أولى نحو السعي وراء تحقيق شمولية العملية
الثقافية.
ومن الإشارات
الإيجابية أن العمل الجمعوي بدأ، منذ سنوات، يتوجه نحو تجاوزات العلاقات الآلية
(بين السياسي والثقافي) التي كانت تحكمه منذ انطلاقه في حضن الحركة الوطنية.
وبالتالي، التخلص من الولاء الحزبي الضيق الآفاق والاهتمامات والمحدود المدى.
وهذا، في حد
ذاته، يعتبر تطوراً متناهياً بخصوص الوعي بخصوصية العمل الثقافي وباستقلاليته
النسبية عن باقي المجالات الأخرى. وهذه الاستقلالية النسبية من شأنها أن تجعل
العمل الثقافي ـ على وجه الخصوص ـ والعمل الجمعوي ـ على وجه العموم ـ مدرسة حية
وحيوية لتفعيل الممارسة الديمقراطية ولتكريس ثقافة الديمقراطية والتعامل
الديمقراطي. كيف لا والعمل الجمعوي يعتبر فعلا يومياً يخضع باستمرار لمحك الواقع.
وبالتالي يمكنه أكثر من أية آلية أخرى، من إنتاج جملة من القواعد والتقاليد في
الممارسة عبر مواكبة سيرورة التغيير.
إلا أن هذا
التطور لا يجب أن يحجب على أعيننا استمرار وجود جملة من النواقص التي لازالت عالقة
بالعمل الجمعوي. ومن أهمها فقدان أغلبية الجمعيات لأرضية ورؤية واضحتي المعالم
ومحددتي المقاصد، الشيء الذي يساهم في استمرار سيادة العفوية والارتجالية في العمل
الجمعوي والاكتفاء بالجاهز. ومن شأن هذا الواقع أن يكرس قوقعة الجمعيات في دائرة
النقل والتكرار والموسمية والمناسباتية (نفس الأسابيع الثقافية وأحياناً بنفس
المواضيع ونفس الوجوه ونفس التنظيم ونفس السيناريو...). وهذا النمط لم ينتج إلا
توجها أحادي الاتجاه، غير خلاق، مثقف محاضر (المنتج) وجمهور متلقي ومستهلك فقط.
وهذا أمر يكرس مركزية القرار الثقافي.
وفي هذا الصدد
لا مناص من إثارة إشكالية ذات أهمية خاصة. وهي المتعلقة بالفهم المغلوط لجماهرية
العمل الثقافي. إذ أن النظرة المهيمنة هي تلك التي تثمن نجاح وجماهرية التظاهرات
الثقافية بإقبال الجمهور عليها. وربما هذا ما يدفع مختلف الجمعيات إلى استدعاء
الشخصيات الوازنة والرُموز لجلب أكبر عدد من الجماهير. وهذه نظرة تركز على الكم
أكثر ما تعتبر الكيف. باعتبار أن المهم والأهم في العمل الثقافي يكمنان بالأساس في
وظيفة هذا العمل الثقافي، وبالتالي في مدى تمكنه من تكسير العلاقة الشاذة بين
المحاضر (المنتج) والمتلقي (السلبي) (المنتج/ المستهلك). لأن العمل الثقافي ذي
البعد الجماهيري الفعلي هو الذي يسعى إلى تحرير الطاقات الخلاقة عند المتلقي الذي
يتفاعل معه. أي، إخراجه من وضعية المستهلك السلبي إلى موقع المستهلك الإيجابي ثم
إلى موقع المنتج المبدع والمبادر.
وهكذا يصبح
مقياس جماهيرية العمل الجمعوي هو في الحقيقة مدى قدرته على تفعيل بروز مثقفين
ملتحمين بالواقع المجتمعي، وبتطلعات الناس وطموحاتهم وانتظارا تهم.
وعموما، إن
العمل الجمعوي بجهتنا مازال يطغى عليه الطابع الأدبي، ومازال يشكو من غياب البحث
الميداني.
ولقد حان الوقت
إلى الاهتمام بالإشكالية الثقافية لبلورة مشروع تجديد ثقافي لتمكين العمل الجمعوي
من لعب دوره في عملية إعادة الارتباط بالواقع وبهموم المواطن وانتظارا ته
وطموحاته. وأوّل خطوة في هذا المسار هي التصدي للنظرة المحتقرة لكل ما هو محلي
وخصوصي، وتغيير النظرة الاستخفافية السائدة في التعامل بهذا الصدد. وذلك عبر تشجيع
الاهتمام بالذاكرة الجماعية عوض التأمل المختبري أو انطلاقاً من الصومعة العاجية.
وهذا بدوره يتطلب ابتكار طرق وأساليب تسمح بتفعيل دور المتلقي ليرقى على إشكالية
أخرى مهمة بمكان. وهي مسألة العلاقة داخل الجمعيات وعلاقة هذه الأخيرة بأعضائها
وجمهورها، وجدلية الفرد والجماعة في الإبداع الثقافي،
باعتبار أن الجمعية عليها أن تكون مثقفا جماعيا.
وخلاصة القول
فإن العمل الجمعوي عليه أن يكون مدرسة للديمقراطية، للمعرفة وتفعيل سيرورة التغيير
لتمكين بلادنا من صنع مستقبل يواكب الركب.
إدريس ولد القابلة رئيس تحرير جريدة فضاء الحوار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق