دار الشباب المغربية
: إشكالية التأطير وهاجس الفرملة
عبد الرحيم العطري
دار الشباب
المغربية، عنوان عريضة لبنية مأزومة ووظيفة غامضة، وعنوان
أيضا لرصيد تاريخي من العمل الجمعوي والانفتاحات الشبابية التي تحاول
حياكة زمنها الخاص خارج آليات الضبط والمراقبة.
بنية مهزوزة إذن ووظيفة
ملتبسة تزداد غموضا مع انبلاج فجر ألفية جديدة، لا مكان فيها إلا للمؤسسات
القوية المسلحة بالتوجهات الإستراتيجية الواضحة والمشاريع البيداغوجية
الصلبة.
دار الشباب بالمغرب إشارة بارزة لإشكالات عديدة يتأسس
انطراحها على الكثير من اللبس بسبب الإفلاس الذي بدا أنه يجتاح مهام المؤسسة،
وأيضا بسبب المنافسة الشديدة التي صارت تتعرض لها من طرف مؤسسات وقطاعات
وهياكل موازية، ربما لا تدنو منها في شيء من القدم والحضور. لكن كيف السبيل
إلى قراءة تضاريس هذه المؤسسة الحاضرة/الغائبة؟ كيف السبيل إلى تفكيكها
وخلخلتها؟ فمن أين البدء؟ وكيف يكون البدء؟ وعلى أي المرتكزات يمكن للباحث
عن الحقيقة- أن يستند في المحاولة /المقاربة؟ دار الشباب البنية
والوظيفة إنه المسعى الفكري الرئيسي الذي تنبني عليه شرعية هذا النقاش الذي
نريده مفتوحا ولا نهائيا،إنه المسعى الذي يتوجب علينا الوصول إليه من دروب
السوسيولوجيا كمعرفة تساعد كثيرا في فضح الأنساق الاجتماعية وتحليل
المؤسسات وتشريحها اعتمادا على ثقافة النقد والمساءلة، على اعتبار أن دار الشباب
تشكل نسقا مفتوحا /مغلقا ومؤسسة رسمية تحتضن العديد من الرموز
والظواهر والحالات المجتمعية. إن المقاربة
السوسيولوجية-كرؤية علمية وكخيار
بالأساس إلى اكتشاف الشروط الاجتماعية لإنتاج « الاجتماعي « وذلك عبر
تحليل ودرس المجتمع،
ستسعف لا محاولة في التصدي للأسئلة المار ذكرها ،
وبالتالي فإنها ستضعنا قريبا جدا من مسعانا المشروع المتصل بالمؤسسة بنية
ووظيفة.
لغة الأرقام
أولا….
إن ما نصبو
إليه يحتم علينا بداية
الإنصات للغة الأرقام علها تعبد لنا طريق الكشف والاكتشاف، فهي تشير إلى
توفرنا مع مطلع الألفية الثالثة على حوالي 276 دار الشباب، يوجد منها 205
مؤسسة بالوسط الحضري بنسبة74% و71 مؤسسة أخرى بالوسط القروي بنسبة 26% ومن
بين مجموع هذه المؤسسات المتناثرة عبر التراب الوطني هناك فقط 150 مؤسسة
في حالة صالحة للعمل، و96 مؤسسة في حاجة إلى إصلاحات متعددة في حين تستوجب
30 مؤسسة أخرى الإغلاق نظرنا لعدم صلاحيتها لاستقبال أي نشاط !! وبالنظر إلى
ارتفاع أرقام زبناء هذا المؤسسات من الشباب والذين تؤكد الإحصائيات
الرسمية أن عددهم يصل إلى حوالي 9 ملايين نسمة، فإن هذه الدور تبقى عاجزة عن
تلبية مختلف الحاجيات الترفيهية لهذا الجمهور العريض، ذلك أن دار للشباب
واحدة لكل 35 ألف طفل وشاب، وتصل هذه النسبة إلى مؤسسة واحدة ل 80ألف طفل
وشاب، الشيء الذي يبرز الخصاص( ) المهول في تغطية وتلبية حاجيات الشباب.
ويقدر الخصاص
الحالي بما يناهز 570 مؤسسة يفترض أن المؤسس 154 منها الوسط
الحضري و416 في الوسط القروي، لكن هل تبلورت فكرة الحاجة إلى دار الشباب
لدى رؤساء ومستشاري جماعاتنا الحضرية والقروية ( ) ليهبوا لإنشاء هذا الدور وهزم
الفراغ المريع؟
لكن هذه
الأرقام الكارثية التي ترتبط
بالمؤسسة لا تقف فقط عند هذا المستوى، بل تتعداه إلى إشكالات التأطير التي تؤثر
بشكل مباشر في البنية والوظيفة، فهناك حوالي 600 إطار يعمل بهذه المؤسسات، وهو
رقم يبدو من الوهلة الأولى محققا" للكفاف التأطيري" بحيث يكون حاصله
المنطقي هو إطاران لكل مؤسسة، لكن لاشيء من هذا يتحقق واقعيا، فقط 85 مؤسسة
هي التي تسير بإطارين،وأكثر من 75 مؤسسة مسيرة بإطار واحد، في حين هناك دور
أخرى محظوظة-في المغرب النافع طبعا-يصل عدد العاملين فيها إلى 17 إطار
!! وهذا كله يحدث في الوقت الذي مازال خريجو المعهد الملكي لتكوين أطر
الشبيبة والرياضة(أفواج 96،97،98ن99،2000 ) يلتفحون بنيران العطالة بسبب
خذلان قوانين المالية المستمر لهم، والتي لا تجود على الشبيبة والرياضة إلا
بأرقام متواضعة جدا مقابل آلاف المناصب التي توزع على قطاعات أخرى!
في المختبر
السوسيولوجيا
إن المهمة
التاريخية للعلوم الاجتماعية هي
مساعدة الإنسان في السيطرة على المجتمع( ) أي في احتوائه وفهمه،
فالسيوسيولوجيا تسعف كثيرا في مجابهة الأسئلة المجتمعية بكل انفتاحاتها
وانفلاتاتها الشقية، وتقود بفضل آليات اشتغالها نحو الاقتراب منها وتحليلها
تحليلا علميا يمتلك وجاهة معرفية خاصة .
وتأسيسا عليه يصير إدخال
موضوع دار الشباب المغربية وما يفرزه من أسئلة بنيوية ووظيفية إلى مختبر السوسيولوجيا،مطلبا
معرفي ملحا لاستكمال مهمة التحليل،بل إنه يعد خطوة مركزية
أساسية على درب إعادة الاعتبار لهذه المؤسسة ولرصيدها التاريخي وأدوارها
الحيوية بل إن أسئلة البنية والوظيفة ذاتها تفرض علينا الإنصات إلى الرأي
السوسيولوجي خصوصا وأن هذين المصطلحين يحيلان مباشرة على اجتهادات
سوسيولوجيا أضافت الكثير إلى علم الاجتماع كعلم يتأسس باستمرار من خلال تكسير
وبناء ذاته. لكن ما الذي يعنيه مثلا إدخال "المؤسسة "إلى "المختبر
السوسيولوجي" ؟ هل يدل هذا الفعل على الأزمة باعتبار أن السوسيولوجيا
هي علم الأزمة ؟أم أنه يشير إلى حاجتنا الأكيدة على المؤسسة؟ أم يعني
باختصار نوعا من الباثولوجيا الاجتماعية، والإفلاس المؤسسي الذي يفترض ارتياد
"العيادة السوسيولوجية" ؟ أو أن ذلك كله ما هو في الختام إلا محاولة معرفية
تحاول النظر إلى المؤسسة بنية ووظيفة من زاوية مختلفة تماما عن كل ما يثار
حولها في الغالب من الأحايين؟ ومهما يكن من الأمر فالدخول إلى عالم
السوسيولوجيا يقتضى الدقة في طرح والتحليل، وهو ما يتطلب منا أولا إبراز المقصود
بالبنية والوظيفة في هذا المقام.
يؤكد كلود
ليفي ستراوس بأن لكل شيء
شخصية، هيئة،مجتمع ثقافة، آلة بنية ما لم يكن معدوم الشكل( ) ويضيف قائلا
بأن ظاهرة ما لا يستحق أن يطلق عليها بنية ما لم تتوفر فيها الشروط
التالية:
- أن يكون
عناصرها مترابطة ومشكلة لنسق موحد.
- أن ينعكس أي
تحول في عنصر ما على باقي العناصر
- التنبؤ في
حالة وقوع التحول.
أما بارسونز
فيعتبر أن البنية هي نماذج ممأسسة من الثقافة المعيارية بحيث تكون البنية هي
النتاج الواقعي والفعلي لعملية المأسسة.
أما الوظيفة فيقول عنها السوسيولوجي الأمريكي روبرت ميرتون بأنها تشير على المهنة والمهمة والغاية فضلا عن معان أخرى رياضية وبيولوجية( ) وبالنسبة للبنيوية الوظيفية عند قطبي السوسيولوجيا الأمريكية لازرشفيلد وبرسانس فهيتتصور بنية الظاهرة باعتبارها معطاة في التجربة أو الواقع المحسوس مهمته أساسا هي الربط بين بنية المجتمع والوظيفة التي تؤديها، والترابط الشامل بين وظائف المجتمع والذي إذا ما وقع خلل بإحدى وظائفه يكون له انعكاس على مجموع بنية المجتمع( ) وهذا ما أكده مالينوفسكي الذي رفض الفصل بين البنية والوظيفة في دراسته للمجتمعات البدائية في إطار بنيوية وظيفية. وهذا بالضبط ما نرتكن إليه في تصدينا لدار الشباب المغربية كموضوع سوسيولوجي، إذ نؤكد بداية صعوبة أو بالأحرى استحالة التمييز بين بنية المؤسسة ووظيفتها المادية والرمزية ففي سياق التحولات التي تعرفها ويعرفها المجتمع أيضا، يصير أي تحول أو ثبات في البنية، منتقلا بالتبعية بآثاره وامتداداته المؤسساتية.
أما الوظيفة فيقول عنها السوسيولوجي الأمريكي روبرت ميرتون بأنها تشير على المهنة والمهمة والغاية فضلا عن معان أخرى رياضية وبيولوجية( ) وبالنسبة للبنيوية الوظيفية عند قطبي السوسيولوجيا الأمريكية لازرشفيلد وبرسانس فهيتتصور بنية الظاهرة باعتبارها معطاة في التجربة أو الواقع المحسوس مهمته أساسا هي الربط بين بنية المجتمع والوظيفة التي تؤديها، والترابط الشامل بين وظائف المجتمع والذي إذا ما وقع خلل بإحدى وظائفه يكون له انعكاس على مجموع بنية المجتمع( ) وهذا ما أكده مالينوفسكي الذي رفض الفصل بين البنية والوظيفة في دراسته للمجتمعات البدائية في إطار بنيوية وظيفية. وهذا بالضبط ما نرتكن إليه في تصدينا لدار الشباب المغربية كموضوع سوسيولوجي، إذ نؤكد بداية صعوبة أو بالأحرى استحالة التمييز بين بنية المؤسسة ووظيفتها المادية والرمزية ففي سياق التحولات التي تعرفها ويعرفها المجتمع أيضا، يصير أي تحول أو ثبات في البنية، منتقلا بالتبعية بآثاره وامتداداته المؤسساتية.
أسئلة البنية
وانطلاقا من هذا الغائب
ذكره يحق لنا أن نتساءل وبكل إلحاح:ما بنية دار الشباب المغربية؟ وما
حقيقتها بالضبط في فوهة المشاكل والأسئلة التي تطوقها من كل جانب ؟
لقد أوضح إميل
دوركهايم في كتابة "تقسيم العمل الاجتماعي "بأن دراسة أي
ظاهرة اجتماعية توجب علينا أن ندرس السبب الذي ينتجها والوظيفة التي تقوم
بها"وهذه الدراسة/ المطلب تفرض أيضا تشريحا أوليا للبنية التي تتفاعل فيها
العناصر الاجتماعية كلها. والواقع أن هذا التشريح يضعنا منذ الوهلة الأولى
أمام صعوبة منهجية، ذلك إننا حيال بنيات متعددة ووضعيات مختلفة تندغم
في بنية عامة تستفز الوعي وتحرض على طرح أفظع التساؤلات!
فبنية المؤسسة يمكن
النظر إليها من عدة معطيات معمارية، بشرية مادية وتنظيمية قانونية وبعدا
من زاوية نسقية تنفتح على النسق العام للمؤسسة، خصوصا وأن المكونات
السياسية التي تتكون منها أي مؤسسة وكما يوضح ذلك لوروهي عناصر الزمان
والمكان، والجوانب النفسية والقانونية والاجتماعية، ثم الأنشطة المباحة
والمحرمة المرفوضة والمعاقب عليها، فضلا عن مشروع المؤسسة التي يتجلى في
أنواع الخطابات التي تصدر عن المؤسسة( ) .
وبحثا عن
الملامح وخصيصة هذه
البنية نتساءل أولا هلا تتوفر دار الشباب المغربية على هوية معمارية
تميزها وتعطيها طابعا خاصا يحفظ لها الفرادة؟ أم أن المؤسسات يبني كيفما اتفق ،
ودونما اتكاء على خلفية معمارية تبعد عنها "المسخ الإسمنتي "وتحفظ
لها ماء الوجه ؟
عندما نمعن
النظر في واقع عدد هام من دور الشباب بالمغرب،
سيتأكد لنا قويا بأن هذه المؤسسات لا تجمع بينها وحدة معمارية، اللهم إلا
"لازمة" القاعات الصغرى والكبرى، وكذا اليافطات التي تعلن انتماء إلى وزارة
الشبيبة والرياضة في حين ترتفع درجات الاختلاف في تصاميم البناء وتوزيع
المؤسسات جغرافيا، فحتى الموصفات التقنية( ) التي تقترحها الوزارة للبناء لا يتم
احترامها. وهذا كله ينعكس على البنية المعمارية التي تفتقد إلى الهوية
المشتركة، والشكل المناسب لاحتواء طموحات الزبناء المفترضين للمؤسسة. ومن
جهة أخرى فحديث البنية يأخذنا مباشرة إلى البنية البشرية التي تتوزع بين
القائمين على أمور الدار من أطر مسيرة، والزبناء، من رواد أندية وجمعيات،
وبالنسبة للأطر فقد أبانت إحدى الدراسات بان نسبة الرضا الوظيفي لديهم منحدرة
نحو الأسفل( ) بسبب سوء توزيع
الأطر وضالة إمكانيات وانعدام التحفيزات
وكثرة المعوقات "فماذا ننتظر من إطار واحد يسير مؤسسة لا توفر على الماء
والكهرباء… وحده يناضل … ويضطلع بمهام الحراسة والنظافة لعدم وجود حارس،
ماذا تنتظر منه غير الإحباط( )؟"
أما بالبنية
البشرية المرتبطة
–بالزبائن/الشركاء،فتدل هي الأخرى على أزمة عميقة المستوى، فهناك حاليا ما
يناهز ألف فرع لمنظمات الشباب تمارس أنشطتها بدور الشباب، فضلا عن عدد مهول من
الجمعيات المحلية التي يتم تفريخها في كل حين علما بأن هذا الاتساع الكمي
الذي تعرفه الممارسة الجمعوية لا يؤثر على الغنى والتنوع بل يلمح إلى
التراجع والأزموية التي حاقت بالعمل الجمعوي، والذي تتنازعه عدة مشاكل تنظيمية
بشرية، تجعله محدود الأفق والأثر، مراهنا فقط على عمليات رجع الصدى
واستهلاك الخطابات المؤدلجة. وعلى كل فما يبرز أن هذه الأزمة عميقة المستوى
بالنسبة لجميع عناصر البنية البشرية للمؤسسة (أطر،رواد )،فهو الإقبال على
المنتوج الثقافي والتربوي للدار، والذي يتراجع يوما بعد آخر، فقد بدا واضحا
في السنوات الأخيرة أن هناك عزوفا عن ارتياد دار الشباب من قبل الشباب
أنفسهم بسبب المنافسة الشديدة التي تلعبها وسائط أخرى ومؤسسات موازية أخرى
(دور الثقافة، مراكز ثقافية أجنبية، منظمات غير حكومية تتوفر على مقرات خاصة،
نوادي الانترنيت) فعمل دار الشباب لا يلامس إلا 3% من السكان
المتراوحة أعمارهم ما بين 15 و25 سنة كما أن النشرة الإحصائية لسنة 1998 تبين بان
مجموع المستفيدين من أنشطة دور الشباب بالمغرب لم يتعد ثلاثة مليون مستفيد
في السنة. فهل يعتبر هذا الحاصل إيذانا بإفلاس مشروع المؤسسة؟أم
أنه يؤكد الخلل في البنية والوظيفة أيضا؟ إلى ذلك يبدو المستوى التنظيمي
كبنية مؤسسية مثيرا أيضا للإشكال، إذا هناك حاجة ملحة إلى حل أسئلته التي
ترتبط بنصوص وقوانين أبانت الظروف والمتغيرات عدم استجابتها لمعطيات
العصر، الشيء الذي استدعى تغيير الكثير منها خلال الندوة الوطنية الثانية للعمل
الجمعوي المنعقد بالهرهورة في يونيو 2000.
هذا بالإضافة إلى العلاقات
المتعددة التي تدشنها المؤسسة داخليا وخارجيا والتي تتسم بالتعقد
والتشابك وعدم الوضوح أحيانا، بسبب تعدد وتنوع الفاعلين وتضارب مصالحهم مما
يجعل البنية المؤسسية حقلا للصراع الاجتماعي ومجالا خصبا لإعادة إنتاج نفس الرموز
الاجتماعية، وأيضا لمقاومة هذا الإنتاج المكرور.
وتزداد الأزمة عمقا
واستفحالا ارتباطا بالبنية المادية ومكونتها التي تفضح الفقر المدقع الذي
تعرفه دور الشباب بالمغرب اللهم إلا القليل من المؤسسات التي راهنت على
الأنشطة الخدماتية والاستثمارية.
ومن خلال هذه
البنيات المتعددة
للمؤسسة،والتي تندغم في بنية عامة واحدة تشكل نسقا واحد مفتوحا على التوتر
والتغير والثبات، يبدو جليا أن هذا النسق يتضمن مكونات بنيوية شاذة، وإذا
كانت هذه المكونات وكما يقول بارسونز هي القيم المعايير والجماعات
والأدوار فإنها داخل مؤسسة دار الشباب /النسق تنأى شيئا ما عن السواء وتقترب
من الأزمة والخلل الذي يبصم الكثير من أجهزتها البنيوية.
بحثا عن
الوظيفة
إذن في ظل هذه
الظروف الخاصة التي ترهن عمل دار الشباب المغربية، وتؤسس أفق حضورها
وغيابها، هل يحق لنا أن نتساءل عن وظيفتها؟فأي الوظائف تضطلع بها المؤسسة في ظل
هذا الكل الإشكالي ؟ وكيف تؤدي هذه الوظائف الممكنة والمستحيلة ؟ وهل بإمكانها
الحفاظ على مكتسباتها الوظيفية مع شروط المنافسة والإفلاس ؟
وربما يجدر
بنا أولا أن نعمد إلى تحديد الوظيفة / الوظائف المركزية لهذه
المؤسسة قبيل الانخراط في تحليل المحددات والمؤثرات التي تؤسس أو تلغي
وظيفية المؤسسة، وعليه نجد تأكيد بديهيا لدى الفاعلين في هذه المؤسسات
بأنها أوجدت أساسا لاستثمار الوقت الفراغ واستغلاله فيما يفيد الفرد
والجماعة والمجتمع في النهاية، على اعتبار أن الوقت الفراغ هو وقت خطير من
الناحية السوسيولوجية، إذا فيه ترتفع درجات الانحراف والخروج على القيم
والأعراف المجتمعية. ومن هنا تصير المؤسسة مجالا للفرملة وامتصاص الغضب ومقاومة
الانحراف الذي يبقى مفهوما زئبقيا محددا بمصالح المستفيدين أو غير المستفيدين منه!
وهذه الوظيفة
"الأمنية" هي التي حتمت ظهور دار الشباب،
بالمغرب إبان الاستعمار، فسلطات الحماية آنئذ لم يكن يهمها مبدأ رعاية الشباب،
وصقل مواهبه عندما قامت بإنشاء عدد من دور الشباب، بل كان هدفها المركزي
هو احتواء الغضب الشعبي، والقضاء بالتالي على المقاومة، وهذا يتضح بجلاء في
أماكن إنشاء هذه المؤسسات. فقد عمدت سلطات الحماية إلى زرع دور الشباب
قريبا جدا من معاقل المقاومة القوية (البطحاء قرب القرويين بفاس، درب غلف
بالبيضاء، بني ملال، واد زم..) لأداء وظيفة أمنية احتوائية لكن هنا والآن
وبعد الاستقلال وحلول قرن جديد هل مازالت المؤسسة وفية لوظيفتها بشكل
القديم أو وفق أنماط بنائية جديدة ؟
ألا تقوم
اليوم مؤسسة دار الشباب
بدور خطير يفيد الدولة أمنيا ؟ إذ باحتضانها لأنشطة آلاف الجمعيات
ومساعدتها لروادها على "تزجيه الوقت" تكون بذلك قد جنبت الدولة كثيرا من
الانحراف والاحتجاج والرفض العلني، وتكون بذلك قد ساهمت في امتصاص الغضب عبر
إتاحتها لفرص "التفريغ" والتعبير وفق شروط محددة سلفا.
إذن نحن حيال
مؤسسة خاصة جدا لها من الأدوار والوظائف ما لا تقدر مؤسسات أخرى على صنعه-
بالرغم من بنيتها المهزوزة- لكن هل هذه الوظيفة " الأمنية "الظاهرة/
الكامنة تختزل كل الوظائف المتصلة بالمؤسسة أم ماذا ؟
يمكن القول بوثوق
عال بان هذه الوظيفة تشكل عصب المسألة الوظيفية لدار الشباب ولباقي
المؤسسات المجتمعية الأخرى وذلك بالنظر إلى الحضور المخزني القوي الذي يعيش على
إيقاعه المغرب. فالمخزن بأجهزته القمعية والإيديولوجية وهواجسه الأمنية حاضر في كل
شيء حتى في المؤسسات التي تبدو أكثر بعدا عن المخزنية.
ومخزنة
المجتمع بهذا الشكل تجعل من دار الشباب حلقة في سلسلة الامتداد
المخزني، تتأثر بمعطياته وتلتفح بخصائصه، ولهذا تبدو المؤسسة في كثير من
الأحيان وكأنها جزء من وزارة الداخلية وليس الشبيبة والرياضة،بسبب جيوش المقدمين
التي تستعمرها في كل حين، وإجراءات الترخيص والمنع وغير ذلك من الأمور
التي تؤكد استمرار الوظيفة الأمنية تحت يافطات وشعارات جديدة.
وتشير أدبيات
المؤسسة أيضا إلى أن وظائفها تنحصر في ثلاثة محاور وهي الوقاية والعلاج
والإنماء، أي الوقاية من الانحراف، وعلاجه وكذا الإسهام في التنمية.
والواقع أن هذه المحاور التي تتفرع عنها الكثير من الأهداف الفرعية تسير
في نفس الاتجاه الأدنى الذي ينسحب على المحيط الماكروسيوسيولوجي
للمؤسسة، ويستفيد منه بالتالي المجتمع الكبر بضمان استمرار شريطه
وإعادة إنتاج رموزه السوسيو ثقافية.
فالمكونات
البنيوية لنسق المؤسسة
والتي تحدد في القيم والمعايير والجماعات والأدوار تقابلها مجموعات
وظيفية محددة، تعتبر أساليب نسقية للتكيف ضمن علاقات هذا النسق المؤسسي كما
يقول بارسونز، وذلك مع محيطه الخارجي.فالاستقرار كوظيفة تسعى إلى ضمان
استمرار وتجدد القيم الاجتماعية.
في إطار مكون
بنيوي أساسي وهو التنشئة
الاجتماعية، تندرج في صلب الوظائف المركزية لدار الشباب، علما بأن التنشئة
الاجتماعية ما هي في النهاية إلا عملية تدجين اجتماعي لإنتاج " دواجن
بشرية" طيعة!
وانطلاقا من
نظرية مركز- محيط التي سعت إلى تحليل الأنساق السوسيو
سياسية المعاصرة، تظهر دار الشباب مجالا أساسيا تراهن عليه الدولة في إستراتيجية
الإدماج والتهميش التي تحافظ على القائم من الأوضاع، وتؤجل دائما
حدوث التغيير، وبذلك تعمل المؤسسة بطريقة واعية أو لا واعية على إدماج
الفاعلين الاجتماعيين في سياقات سوسيو ثقافية معينة تخدم مصالح الدولة
بامتياز. وتتحول أحيانا إلى آلية تهميش في إطار صراعات النسق العام مع عناصر
المركز والمحيط.
وإذا كان كل
نسق اجتماعي يسعى إلى تحقيق أهداف تخص النسق
العام أو بعض الأنساق الفرعية. فالمؤسسة تصير لها وظيفة متابعة الأهداف
والحرص على بلوغها، وهذا ما يمهد لاستمرارها بالرغم من كل معاول الهدم التي
تستهدفها.
ويتم الوصول
إلى هذه الأهداف التي تخدم أهداف الأنساق
بدرجات عالية عبر وظيفة التكيف لأنها تحدد الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك، وهذا كله
يشير إلى خطورة الدوار التي تضطلع بها المؤسسة في جدلية خفاء وتجلي.
ذلك أن وظيفة/
وظائف المؤسسة تحكمها هذه الجدلية بشكل مباشر وهو ما ينجم عنه
جانب كبير من الغموض والالتباس الذي يكتنف عمل المؤسسة ويؤثر بالتالي على
بنيتها العامة، وذلك بحكم التلازم الموضوعي بين البنية والوظيفة،
فالبنية هي النتاج الواقعي والفعلي لعملية المأسسة ومن الطبيعي جدا أن تتأثر
بالوظائف التي تترتب عن عمل المؤسسة.
زمن المنافسة
بنية مهزوزة مأزومة
ووظيفة غامضة، ومشاكل بالجملة. كل ذلك ما عساه يفعل في زمن المنافسة؟ما
عساه يقدم لرواد المؤسسة في زمن تقوت فيه أجهزة أخرى للضبط والقهر،
ومؤسسات أخرى لاستثمار الوقت بأفضل الطرق؟.
إن دار الشباب المغربية تعيش
زمنا آخر يختلف تماما عن زمن السبعينات الذي كانت تعتبر فيه الملاذ الأوحد
إلى جانب حرم الجامعات بالنسبة لطلبة وكل الرافضين للقائم من الأوضاع، إنها
تعيش لحظة أخرى تقوت فيها هياكل المجتمع المدني،وصارت فيها الكثير من
الجمعيات في غنى عن مقرات دور الشباب بسبب توفرها على مقرات وإمكانيات
مادية هامة، إنه زمن آخر ظهرت فيه بدائل أخرى وأصوات منافسة أخرى وأصوات منافسة
تستعملها آليات استقطاب جديدة ولا تتورع مطلقا عن اللجوء إلى ثقافة
الماركوتينغ واقتصاد السوق.
والمجتمع
المغربي اليوم بدوره لم يعد مجتمع
الفائت، إنه يسير بخطى ثابتة نحو ملامح المجتمع الاستهلاكي ذي البعد الواحد
كما يقول هربرت ماركوز، وهو بذلك يعيش لحظات من التبدل –لن نقول التغيير
–تمتد آثارها السلبية والإيجابية إلى كثير من المناحي الاجتماعية
والثقافية. وهذا كله يجعل زبناء اليوم أكثر اختلافا عن زبناء الأمس. بحيث
لم يعد رواد اليوم في حاجة إلى قاعات تحتضن شغب الإبداع أو إلى توجهات تعتنق
مبدأ "خلق الشيء من لاشيء" كما يردد دائما أطر الشبيبة والرياضة، بل
إنهم يحتاجون منتوجا تربويا وثقافيا مختلفا يعتمد على تكنولوجيا
الإعلام والاتصال، ويريدون استثمار جديدا للوقت الفراغ بأساليب وتقنيات جديدة
تمتح من تنشيط ثقافي نموذجي يمتلك مشروعا بيداغوجيا قويا تتحدد أهدافه
القبلية والبعدية بوضوح كبير.
إن التطور
الذي شهدته الهياكل
المجتمعية وعلى أكثر من صعيد أفرز بدائل جديدة لاستثمار الوقت الفراغ،وبالتالي
طرح لدار الشباب المغربية أدت إلى تراجع أدوارها وتداخلاتها
بسبب تناقض عدد روادها الذين اختاروا دروبا أخرى "لتزجية الوقت"بعيدا عن
"العنف المؤسسة" ومعطياتها البنيوية والوظيفية.
إن شارع اليوم كفضاء اجتماعي
يحتضن رموزا اجتماعية وثقافية معينة، صار من أبرز المنافسين لدار الشباب،
فما يتيحه من فرض للاستهلاك للشباب يجعلهم عازفين عن ارتياد المؤسسة. وليس
الشارع وحده الذي يسرق "من الدار جمهورها،فثمة وسائط ومؤسسات أخرى تستقطب جماهير
غفيرة من الشباب في إطار منافسة خفية شديدة، فهناك المراكز
الثقافية الأجنبية التي تمتلك آليات وأدوات تنشيطية متطورة تعجز دار الشباب عن
توفيرها، فضلا عن دور الثقافة التابعة لوزارة الثقافة والاتصال
والتي لم تعد تقتصر على وظيفة المطالعة بل تعدتها إلى احتضان الجمعيات
ودعمها وفي ذلك تهديد أكيد لمستقبل دار الشباب. وهناك الجمعيات ذاتها التي
اهتدت إلى طرق التمويل والدعم الأجنبي وصارت لديها مقرات ومشاريع واضحة تجعلها في
غنى عن قاعات الشبيبة والرياضة. وهنالك نوادي ومقاهي الانترنيت
التي انتشرت كالفطر البري في أغلب المدن المغربية، والتي صارت تستقبل
جمهورا لا بأس به من جميع الأعمار…
إن ثورة
الاتصال بما حماته من
الأنظمة البث الفضائي التلفزي وظهور الانترنيت ساهمت فعلا في خلق منافسة قوية وغير
عادلة لمؤسسة دار الشباب، جعلها تفقد زبناء كثيرين فضلوا الالتحاق
بقطار الزمن السريع بدل الاستمرار في "قتل الوقت"بأنشطة متقادمة وتقنيات
بيئية. إنه زمن المنافسة إذن، الزمن المختلف عن سابقه ولا حقه، والذي لا مكان
فيه إلا للمؤسسات القوية المسلحة بالمشاريع الصلبة، التي قطعت مسبقا مع
الارتجالية، وفككت قبلا سؤال الغائبة. ذلك أن دار الشباب المغربية-
وللأسف الشديد- لم تحل سؤالها الحيوي: لماذا دار الشباب ؟وأين ؟فما الذي
نريده من دار الشباب؟وإلى أين نريد الوصول ؟
إن عدم الوضوح
في الإجابة على
مثل هذه التساؤلات الشقية هو الذي يفرز ذلك الواقع البنيوي/ الوظيفي
المهزوز، وهو الذي يقلص المسافة بين المؤسسة وموعد انقراضها. ولهذا يفترض في أي
تغيير يراد للدار، أن ينطلق من بداهة وفداحة السؤال التالي: لماذا دار
الشباب ؟
فالإجابة
الصارمة عليه تشكل نقطة البداية لمشروع التصحيح وإعلان الحضور وتجاوز حالة الغياب
القسرية.
لمحاربة
الانقراض
أمام وضع كهذا ما
الذي يتعين القيام به لمحاربة الانقراض ؟ لأنه و بكل وضوح فالمؤسسة بهذه
المعطيات البنيوية والوظيفية مهددة بالانقراض ومعرضة لا محالة
للإفلاس، إذا ما فضلت الاستمرار في نفس النهج بإعادة الإنتاج لنفس الرموز دونما
تجاوز أو إبداع.
إن المقاربة
السوسيولوجية التي اعتمدناها في هذا المقام
لم تهدف فقط إلى "فضح" وتفكيك واقع المؤسسة، ولكنها تتجاوز ذلك في
هدفيتها الرئيسية إلى بلوغ مرتبة قوة اقتراحية للإصلاح والتغيير، فالسيوسيولوجيا
وكما يقول عبد الكبير الخطيبي هي مشروع معرفي للتفسير والتغيير،ومن
ثمة تكون المقاربة السوسيولوجيا حاملة بدورها لغايات التفسير والتغيير الذي يصبو
إلى طرح وإعمال ما ينبغي أن يكون لتلافي عسر وأزمة ما هو كائن بالقوة
والفعل.
وبما أن الخلل
العام يعتري البنية والوظيفة معا فإن أي تغيير
محتمل ينبغي بالضرورة أن يكون بنيويا ووظيفيا في أبعاده المركزية. وهذا لا يكون
إلا بالإجابة على سؤال الغائية:
لماذا دار الشباب ؟
هل نريدها مؤسسة
لتزجيه الوقت ؟أم نريدها مؤسسة للتكوين ؟أم نريدها مؤسسة من أجل الشباب
بما يعني ذلك من توفير لكل حاجياته ؟أم إننا لا نريد منها أن تكون غير
مؤسسة من مؤسسات "الزينة" و"تلميع الصورة" لإبراز اهتمامنا بالشباب ؟أم
إننا لا نعرف بالضبط لماذا ؟ونعرف فقط أنها مورث استعماري ارتأينا
الاحتفاظ به تماما كما هو الأمر بالنسبة لباقي مؤسسات "تركة" الحماية !
إن هذا السؤال
المأزقي لا يمكن أن نجيب عنه انطلاقا من نظرة قطاعية نحصرها
في وزارة الشبيبة والرياضة،وإنما يتوجب إيجاد جواب شاف له من طرف المشروع
المجتمعي عموما، ومن طرف كافة الأجهزة الدولتية، وذلك لأن دار الشباب لا تهم
قطاعا وزاريا محدد بل تهم مجموع هياكل المجتمع بحكم أدوارها/
وظائفها الخفية /الظاهرة، فمحاربة انقراض المؤسسة، والمحافظة بالتالي على
وجودها تكون انطلاقا من فك أسرار الغائية الغائبة، وعلى أعلى المستويات،
وبأقصى درجات الوضوح. فإذا كنا نريد مؤسسة شبابية بامتياز تعانق هموم وآمال
الشباب وتلبي حاجياتهم فهذا يعني ضرورة تأهيل المؤسسة بنية وظيفة، تأهيلا
يتناسب وروح العصر، أما إذا كان سؤال الغائية غائبا عنا ولا نتعب أنفسنا
ببحثه وتمحيصه فهذا يعني اختيارنا للأفق المحدود وللموت البطيء !
إن دار الشباب
مؤهلة لصنع التغيير عبر الإسهام في مشاريع التنمية المجتمعية،
وإقحامها في هذا البعد التنموي الضروري للإقلاع يتطلب استحضار لجميع
التحديات التي تعصف بها، وذلك ارتباطا بثورة الإعلام والاتصال وتنامي حاجيات الشباب
وانتقالها إلى مستوى بالغ التعقيد.
فحماية
المؤسسة من الانقراض فيه
حماية قصوى للذاكرة الجماعية وتحصين للممارسة الجمعوية وتأكيد قبلي
لاعترافنا بالشباب كفئة تستحق الاهتمام والاحترام. ولهذا ليس هناك من خيار أمام
الفاعلين في فضاء دار الشباب إلا محاربة هذا الانقراض باستبداع أساليب وطرائق
جديدة لاستثمار الوقت الفراغ تساير تطورات العصر، وأيضا بتأهيل
البنيات العامة للمؤسسة وتشذيب وظائفها النوعية. بدون ذلك كله لن يكون للمؤسسة
موقع في مغرب الغد، إذ ستتحول فقط إلى مؤسسة ثانوية أو ثالثية تختص فقط في
ابتلاع المال العام من غير تحقيق أية مردودية تذكر.
إذن دار الشباب
المغربية أسسها البنيوية والوظيفية توجد اليوم في مفترق الطرق وما على
الفاعلين فيها إلا الاختيار، وبالطبع فلكل اختيار ثمنه ونتائجه، التي لا بد
وأن يلتسع بها المجتمع عموما بحكم التأثر
والتأثير بين الميكرو والماكروسيولوجي.
عبد الرحيم العطري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق